ألا يطفئ الحب شهوة المال؟/ قصة قصيرة

"فقيرة. لا يجد أبوها لقمة
يطعم بها أولاده العشرة. ليست بنت جاه وستتعب معها. إنها طامعة في مالك لا غير.
اعقل ولا تتزوجها". عبارات كثيرة سمعتها من أهلي وأقاربي وأصدقائي وأنا أتقدم
للزواج بفاتن، موظفة الإستقبال في أحد فنادق المدينة. وقد سددت أذنيّ عن كل تلك
النصائح، خصوصاً بعد أن سألت عن البنت وتأكدت من أن أهلها أناس مستورون، على الرغم
من أنهم في فقر مدقع، وأن مرتبها هو مصدر رزقهم الوحيد، لأنّ الأب مريض وهي
الكبرى.
اتفقت مع عروسي على أن تترك العمل وأن أدفع لها مبلغاً يزيد على ما كانت
تتقاضاه من الفندق، يذهب إلى عائلتها مباشرة. أما مصروفها الخاص، فقد جئت لها
ببطاقة ائتمان تتيح لها أن تأخذ من حسابي ما تشاء. وهنا لابدّ من توضيح صغير: أنا
لم أشتر فاتن بفلوسي، بل نشأت بيننا قصة حب ناعمة هي التي شجعتني على الإرتباط بها.
ثمّ إنني لست عجوزاً يقتني جارية أو ممرضة يستند عليها، وكل ما بيننا بضع سنوات من
عمر مازال في أوجه.
أحببتها وأحبتني، لكنها كانت نهمة في الاستيلاء على أقصى ما
يمكنها أن تأخذه مني، لكي تضعه في كف والدها العاجز ولم يزعجني الأمر، لأنّ أهلها
هم أهلي، وشبعهم من شبعي، لذلك فتحت لزوجتي حساباً خاصاً بها وعودتها على أن أضع
فيه مبالغ من أرباحي، تتصرف بها كما تشاء. وكنت اقول لنفسي إنها عاشت ظروفاً قاسية،
وعرفت ذل الحاجة، وتريد أن تطمئن على نفسها وأشقائها وتغلق باب الخوف من
الجوع.
لكن فاتن لا تكتفي بما تأخذ، وهي تتحايل عليَّ بحجج شتى لكي تأخذ المزيد،
بحيث إنني بدأت أشك في أنّها تحبني لذاتي، لا لنقودي. فهل تتركني إذا صادفت من يدفع
لها أكثر؟
أجلس أمامها على مائدة الإفطار وأراها جميلة وسعيدة وضاحكة وتدعو لي
بالتوفيق والرزق الوفير. فأخرج إلى عملي وأنا مرتاح وممتلئ نشاطاً. لكن مراجعة
حسابي، على شاشة الحاسوب في المكتب، تعيدني إلى ش******** وقلقي. أين تذهب زوجتي
بكل هذا المال؟
في المساء، تختبئ في حضني مثل قطة أليفة يطاردها كلب شرس، وتقول
لي إنني جدار الأمان الذي تحتمي به، فأبلع تساؤلاتي وأحضنها وأطرد مخاوفها وأشبعها
حباً.
لم أكن أتصور أنّ هناك رجلاً يمكن أن يكون بكل هذه الطيبة وكل هذا الكرم.
أنا أحبه ليس لأنّه زوجي فحسب، بل لأنّه الإنسان العظيم الذي فهم قلقي ورعبي وشملني
بذراعه القوية والآمنة. وهو أمان يلقي بظله الوارف على رؤوس أبي وأُمّي وإخوتي
وأخواتي الكثر. لقد صار لي حساب باسمي في البنك، وهو ليس الحساب الأوّل، فقد كان لي
حساب أتلقى عليه تحويل مرتبي الضئيل... والفارق بين الحسابين، هو أنّ الأوّل كان
خاوياً، عدا يوم تلقي المرتب، والثاني سمين ويزداد إمتلاءً... وامسكوا الخشب.
هل
أنا جشعة وزوجة بلا ذمة؟ هل أسرق زوجي في سبيل أهلي؟ إنّ أحداً لا يعرف ما مررت به،
ولا الذل الذي كنت أواجهه وأنا أعيش تهديداً متواصلاً بالصرف من العمل لأنني أرفض
مسايرة زبون ثقيل أو ذي يد طويلة. لقد جاهدت جهاداً بطولياً لكي أحافظ على نفسي ولا
أنزلق تحت ضغط الفقر والجوع. إنّ الجوع ليس لقيمات تدخل الفم، بل حرمان يومي ودائم
من كل ما يسمح للإنسان بأن يشعر بإنسانيته وكرامته. وقد أعاد لي زوجي شعوري بأنني
إنسانة، وبأنّ الحياة ليست عملاً وحسابات صغيرة فحسب، وليست خوفاً وقلقاً من غد
قاتم، بل متع وأسفار ومطاعم وثياب جميلة وعلاج سريع لأي طارئ صحي.
لهذا أحب زوجي
وأمنحه أفضل آيات إمتناني وأملأ حياته بالسعادة وراحة البال. لكنه يبدو قلقاً من
سلوكي الذي لا يفهمه مع النقود، ولعله يشك في تصرفاتي ويتصورني أسايره طمعاً في
المزيد. كيف أكسب ثقته وكل أهله وأصدقائه يحذرونه مني ومن طمعي في أمواله؟ إنّه
يقول لي إنّ ماله هو مالي. وأنا أتصرف على هذا الأساس، وأعرف أنّ التجارة
والمضاربات يمكن أن تصعد بصاحبها إلى فوق، وأن تهبط به، في لحظة، إلى الحضيض. لذلك
صرت أدخر في حسابي كل ما يمكن أن يضمن لي ولزوجي حياة آمنة من المفاجآت. ثمّ إن
طفلنا في الطريق، وسأطلب من زوجي أن يفتح له حساباً أيضاً، لكي يكبر مرتاحاً ومرفوع
الرأس ولا ينظر، كما كانت أُمّه تفعل، إلى اللقمة الهانئة في أيدي
الآخرين.

لا تنسوو التقييم