المتفائلين هم على الاغلب من ممارسي التمارين الرياضية واقل تدخينا، ويعيشون مع شركاء حياتهم، ويطبقون النصائح الطبية مقارنة بالمتشائمين :
وجه أنظارك نحو الوشاح الفضي الذي يحيط بالغيوم المتلبدة الداكنة بدل التحديق فيها.. هذه العبارة تنادينا للنظر الى الحياة بإيجابية، برغم الصعاب. وبالفعل فان التحلي بروح البهجة
يساعدنا على اجتياز مواقع صعبة تعترض طريق حياتنا.
ولكن السؤال هو:
هل ان الاشخاص الذين ينظرون الى القدح وهو نصف مملوء، يتمتعون بحياة صحية افضل من الاشخاص الآخرين المتشائمين، الذين يرون القدح وهو نصف فارغ ..؟؟
وفقا لسلسلة من الدراسات من الولايات المتحدة واوروبا، فان الجواب هو نعم. فالتفاؤل يساعد الناس على التكيف مع المرض والشفاء من العملية الجراحية. ولعل الامر الذي يعزز الانطباع الاقوى هنا، هو تأثير النظرة المستقبلية الايجابية على الصحة بمجملها وعلى طول العمر. وتقول لنا الابحاث ان النظرة المستقبلية المتفائلة مبكرا في الحياة، يمكنها ان تتنبأ لصاحبها بصحة افضل وبمعدلات اقل في الوفيات، خلال فترات متابعة تراوحت بين 15 و 40 سنة.
قياس التفاؤل :
ولدراسة التفاؤل، فقد احتاج العلماء اولا لتطوير طرق موثوقة لقياس هذه الخاصية. ويستخدم نظامان على نطاق واسع: الاول يقيس التفاؤل الطَبْعِي )الخاص بطباع الانسان) dispositional optimism، والنظام الآخر هو لقياس الاسلوب التعليلي explanatory style.
ان التفاؤل الطبعي يعتمد على التوقعات الايجابية لمستقبل شخص معين. وهذه التوقعات ليست محصورة في جانب واحد او جانبين من الحياة، بل انها توقعات معمّمة لنتائج مقبلة جيدة في شتى المناحي.
ويوظف الكثير من الباحثين «اختبار التوجهات الحياتية» Life Orientation Test المكون من 12 بندا، لقياس التفاؤل الطبعي. اما الاسلوب التعليلي فهو يستند الى مسألة كيفية تفسير الشخص للأنباء الجيدة او السيئة.
فالمتشائم يأخذ الملامة على نفسه عند ورود الأنباء السيئة (هذا بسببي)، ويفترض ان الوضع سيظل مستقرا (انه سيستمر الى الأبد)، وتكون له تأثيرات شاملة (انه سيؤثر في كل ما اعمله). اما المتفائل، من جهة اخرى، فانه لن يأخذ الملامة على نفسه بسبب الاحداث السلبية.
وبالعكس، فانه ينزع لأن يمنح لنفسه التقدير لدى ورود الانباء الجيدة، وهو يفترض ان الامور الجيدة سوف تستمر، ولديه الثقة بأن التطورات الايجابية ستحدث في مختلف مناحي حياته. ويوظف الباحثون في الغالب استبيانات خصائص الاسلوب Attributional Style Questionnaire او طريقة تحليل محتوى التعليلات الشفوية Content Analysis of Verbatim Explanations، لتقييم التفاؤل المستند الى الاسلوب التعليلي.
التفاؤل ومرضى القلب :
وفي بعض الدراسات ركز الباحثون على الصلة بين التفاؤل وبين بعض الحالات الصحية المعينة، ويقول الشعراء والفنانون ان القلب المفعم بالسرور والبهجة بمقدوره ازاحة المشاكل والصعوبات - والآن يقول العلماء ان التفاؤل ربما يساعد القلب نفسه.
وفي إحدى الدراسات قيم الاطباء 309 مرضى في اواسط اعمارهم كانوا ينتظرون خضوعهم لعملية جراحية لفتح مجاز لمرور الدم موازٍ للشرايين التاجية (المتضيقة او المسدودة). وبالإضافة الى الفحص الجسدي قبل العملية، خضع كل مريض الى تقييم نفسي موجه لقياس التفاؤل والكآبة والاضطراب العصبي إضافة الى تقييم التقدير الذاتي. وتابع الباحثون كل المرضى لفترة ستة اشهر بعد الجراحة.
وعندما قاموا بتحليل البيانات وجدوا ان عدد المتفائلين الذين تطلب الأمر اعادة ادخالهم الى المستشفى، كان اقل بمقدار النصف من عدد المتشائمين. وفي دراسة مماثلة على 298 مريضا من الذين عولجوا من تضيق الشرايين، ظهر ان للتفاؤل دورا وقائيا، اذ وجد ان المتشائمين كانوا يتعرضون ثلاث مرات اكثر للاصابة بالنوبات القلبية، او يحتاجون لعملية اخرى لإزالة تضيق الشرايين او لفتح مجاز للدم في قلوبهم، مقارنة بالمتفائلين.
التفاؤل وضغط الدم :
النظرة المفرحة قد تساعد الناس على الشفاء من عمليات القلب، فهل بمقدورها ايضا خفض خطر ظهور احد عوامل الخطر الكبرى لأمراض القلب، ألا وهو ارتفاع ضغط الدم؟.
يفترض بحث اجري في فنلندا، أن الجواب هو نعم. وقد قيّم العلماء حالات 616 رجلا في اواسط اعمارهم كان لديهم ضغط عادي للدم في بداية الدراسة.
وتم ربط كل نظرة ذهنية مستقبلية لكل رجل مع اسئلة حول توقعاته في المستقبل، كما تم تقييم عوامل الخطر للاصابة بأمراض القلب والاوعية الدموية لدى كل واحد منهم، مثل التدخين، السمنة، النشاط البدني، الافراط في تناول الكحول، ووجود تاريخ عائلي لارتفاع ضغط الدم.
وعلى مدى اربع سنوات، ظهر ان الرجال الأكثر تشاؤما كانوا سيتعرضون اكثر بثلاث مرات لارتفاع ضغط الدم من أقرانهم المتفائلين، حتى مع أخذ عوامل الخطر الاخرى بنظر الاعتبار.
وقد وجدت دراسة اميركية على 2564 رجلا وامرأة في عمر 65 سنة فأكثر، ايضا، ان التفاؤل جيد لضغط الدم. واستخدم الباحثون سلما من اربعة بنود للمشاعر الايجابية في تقييم كل مشارك لدى زيارته في منزله.
كما قاموا ايضا بقياس ضغط الدم، الطول، والوزن وجمعوا بيانات عن العمر والحالة الزوجية وتناول الكحول، ومرض السكري، وتناول الادوية. وحتى، ومع اخذ كل العوامل الاخرى بنظر الاعتبار فإن الاشخاص من ذوي المشاعر الايجابية كان لديهم ضغط دم منخفض، مقارنة بالذين كانت نظرتهم سلبية. وفي المتوسط فإن الناس الذين كانت لديهم اعلى المشاعر الايجابية رصد لديهم اقل ضغط للدم.
التفاؤل وأمراض القلب :
ضغط الدم المرتفع سبب مهم لمرض الشرايين التاجية. وان كان التفاؤل يخفض من خطر ارتفاع ضغط الدم، فهل بمقدوره ايضا الحماية من ظهور مرض الشرايين التاجية نفسه؟.
ولأجل الاجابة على هذا، فقد قام باحثون من جامعتي هارفارد وبوسطن بتقييم حالات 1306 رجال، بلغ معدل اعمارهم 61 سنة. وتم تقييم الاسلوب التعليلي للتفاؤل او التشاؤم لدى كل متطوع، إضافة الى قياس وتقييم ضغط الدم، الكوليسترول، السمنة، التدخين، تناول الكحول، والتاريخ العائلي للاصابة بأمراض القلب.
ولم يكن أي من الرجال مصابا بمرض في الشرايين التاجية عند بدء الدراسة. وفي غضون السنوات العشر اللاحقة، كان احتمال ظهور امراض القلب اكثر بمرتين لدى المشاركين من الرجال الأكثر تشاؤما، مقارنة بالرجال الأكثر تفاؤلا، حتى مع أخذ عوامل الخطر الاخرى بنظر الاعتبار.
التفاؤل والصحة العامة :
التفاؤل يبدو وكأنه يحمي القلب والدورة الدموية- كما ان بمقدوره ربما، تقديم نفس الفوائد للصحة العامة.
وقد أقيمت دراسة موسعة قصيرة المدى، الصلة بين التفاؤل وبين الصحة العامة لـ 2300 من البالغين الكبار. وخلال سنتين، كان الاشخاص من ذوي النظرة المستقبلية الايجابية يظلون على الأغلب في وضعهم الصحي ويتمتعون بحياتهم الخاصة، اكثر من أقرانهم الأقل تفاؤلا.
البقاء بصحة جيدة على مدى عامين، شيء ـ والبقاء لفترة طويلة، شيء آخر. الا انه ولـ 447 من المرضى الذين تم تقييم التفاؤل لديهم كجزء من التقييم الطبي العام بين عامي 1962 و 1965، كانت فوائد النظرة الايجابية مرغوبة فعلا. وعلى مدى 30 سنة فان التفاؤل كان على صلة بنتائج نهائية افضل في ثمانية مقاييس للوظائف الجسدية والعقلية وللصحة.
التفاؤل والنجاة :
من الواضح ان الناس الأصحاء يعيشون عمرا أطول. وان كان التفاؤل يحسن الصحة فعلا، فان عليه ان يزيد طول العمر ايضا- ووفقا لدراستين من الولايات المتحدة ودراستين أخريين من هولندا، فانه يقوم بذلك! الدراسة الاميركية الاولى قيمت 839 شخصا في بداية الستينات من القرن الماضي، ونفذت اختبارا نفسيا حول التفاؤل - التشاؤم، إضافة الى فحوص طبية.
وعندما فحص الاشخاص بعد 30 سنة من ذلك، ارتبط التفاؤل بطول العمر: فكل 10 نقاط زيادة في التشاؤم في اختبار التفاؤل - التشاؤم النفسي، قابلتها معدلات زيادة في الوفيات بلغت 19 في المائة. ودققت دراسة اخرى أحدث في حالات 6959 طالبا أدوا امتحانا شاملا حول الشخصية لدى دخولهم جامعة نورث كارولاينا في منتصف الستينات من القرن الماضي. وخلال السنوات الـ 40 التالية، توفي 476 من اولئك الطلاب لأسباب عديدة، كان السرطان اكثرها شيوعا.
وعلى كل حال فقد ادى التشاؤم الى نسبة عالية منها: فقد كانت نسبة الوفيات لدى الطلاب الاكثر تشاؤما اعلى بنسبة 42 في المائة من الطلاب الاكثر تفاؤلا.
اما الدراستان الهولنديتان فقد جاءتا بنتائج مماثلة. ففي الاولى درس العلماء 545 رجلا اصحاء لم يكن لديهم مرض في القلب او مرض السرطان لدى تقييم التفاؤل الطَبْعي لديهم سنة 1985. وخلال السنوات الـ 15 التالية، قل لدى المتفائلين خطر الوفاة بامراض القلب والاوعية الدموية بنسبة 55 في المائة، مقارنة بالمتشائمين، حتى مع اخذ عوامل خطر امراض القلب والاوعية الدموية والكآبة بنظر الاعتبار.
اما الدراسة الاخرى من هولندا فقد قيمت 941 رجلا وامرأة تراوحت اعمارهم بين 65 و 85 سنة. وظهر ان الاشخاص الذين اتسموا بالتفاؤل الطَبْعي قل لديهم خطر الوفاة في غضون تسع سنوات من المتابعة، بنسبة 45 في المائة.
آليات محتملة :
وان اخذت هذه الدراسات معاً، فانها تشير باستمرار الى ان التفاؤل جيد للصحة. ولكن لماذا؟ وما الذي يضع الفضة في الوشاح الفضي (للغيمة المتلبدة)؟.
ان المتشائمبن قد يفترضون ان هذا التأثير ربما يكون ظاهريا أكثر من كونه تأثيرا حقيقيا. فالناس الاصحاء غالبا ما تكون لديهم نظرة باهرة للمستقبل مقارنة بالآخرين، ولذلك وربما يكون التفاؤل في الواقع ناتجا عن الصحة الجيدة، وليس العكس.
وللرد على هذه الفكرة يمكن للباحثين اعادة ضبط نتائجهم، بدراسة المشاكل الصحية الموجودة قبل اجراء البحث، ومنها السكري، امراض القلب، ارتفاع ضغط الدم، والمشاكل العقلية مثل الكآبة.
وقد اشارت الدراسات التي تم فيها أخذ هذه العوامل بالاعتبار، الى ان وجود المشاكل الصحية لن يقلل من فوائد النظرة المستقبلية الايجابية على الحياة. وإضافة الى ذلك، فان متابعة الاشخاص لـ 15، 30 و 40 سنة قادت الى تمكين العلماء من تقليل أي تأثيرات غير دقيقة على نتائج الأبحاث.
التفسير الآخر هو تفسير سلوكي. فمن المحتمل ان يتمتع المتفائلون بصحة افضل وحياة اطول مقارنة بالمتشائمين، لانهم يتبعون اسلوبا صحيا في حياتهم، وينشئون شبكة اجتماعية داعمة لهم، ويحصلون على رعاية صحية افضل.
وتبشر بعض الدراسات بأن المتفائلين هم على الاغلب من ممارسي التمارين الرياضية واقل تدخينا، ويعيشون مع شركاء حياتهم، ويطبقون النصائح الطبية مقارنة بالمتشائمين.
الا ان التفاؤل لا يرتبط عموما بالنظام الغذائي الافضل او برشاقة الجسم، بل وحتى ومع ضبط النتائج لأخذ عوامل خطر امراض القلب والاوعية الدموية، فان التأثيرات المفيدة للتفاؤل تظل موجودة.
وإضافة الى المزايا السلوكية للتفاؤل فانه قد يقدم فوائد بيولوجية تحسّن الصحة.
وقد وجدت دراسة اجريت عام 2008 على 2873 رجلا وامرأة من الاصحاء، ان النظرة الايجابية للحياة ارتبطت مع مستويات منخفضة من هرمون التوتر «الكورتيزول»، حتى مع اخذ عوامل العمر، العمل، الدخل المادي، العِرق، السمنة، التدخين، والكآبة في الاعتبار. ولدى النساء، لا الرجال، فان النظرة البهيجة الطَبْعية ارتبطت كذلك مع انخفاض علامتين للالتهابات (سي-ريأكتيف بروتين وانترلوكين-6) C-reactive protein and interleukin-6 اللتين تنبئان بمخاطر النوبة القلبية والسكتة الدماغية.
والفوائد الأخرى المحتملة تشمل انخفاض مستويات الأدرينالين، وتحسن وظيفة المناعة، وتدني نشاط نظام تخثر الدم. واخيرا فان الوراثة يمكنها ان تفسر بعضا من هذه الارتباطات، فمن المحتمل ان تحدد الجينات المتوارثة لدى بعض الناس سمة التفاؤل، وهذه هي نفس الجينات التي تؤثر مباشرة على الصحة وطول العمر.
سماء صافية :
هناك حاجة لإجراء دراسات اكثر لتوضيح الصلة بين التفاؤل وبين الصحة الجيدة. وعلى الاكثر فان هناك عدد كثير من الآليات التي تلعب دورها في ذلك.
الشخصية البشرية معقدة، ولا يعرف الاطباء إن كان التفاؤل جزءا من التركيبة العصبية للانسان، او ان التفاؤل الطَبْعي ينمو مع تنشئة الطباع البشرية. وهم اليوم يواصلون مراكمة أدلتهم حول صلة التفاؤل بالصحة الجيدة.