الوقفة الخامسة :
______________
كنت على رأس العمل أعمل مساءا في الأيام الأولى من ذي الحجة فدخل مكتبي أحد الزملاء بقسم آخر وبرفقتهم شاب في العقد الثالث من عمره وقال لي :يا شيخ قريب لي عمره أربعين سنة توفي خارج المملكة يوم الثلاثاء وسنصلي عليه فجر يوم الخميس في الخامس ليلة السادس من ذي الحجة أي في أواخر ذروة قدوم الحجاج الى المملكة وهذا أخاه يا شيخ ونحن مسافرين على أول رحلة لإحضاره ونريد منك يا شيخ أن تكون بانتظارنا في المطار بعد الانتهاء من جميع الاجراءات الخاصة بشحنه الى السعودية في هذه البلدة وسوف نتصل بك من المطار لنخبرك عن الرحلة وموعدها لتقوم بتجهيزه ،قلت: ان شاء الله وفي اليوم الثاني سألت موظف الشحن عن وصول رحلة رقم كذا من دولة كذا عليها الجثمان كذا ،قال: دعني أتأكد من البرقيات الواردة في مثل هذه الرحلات ثم عاد
وقال: نعم يا شيخ المعلومات صحيحة فتوجهت الى هناك وفعلا رأيت الكثير من أهل الميت بانتظاره وما هي الا دقائق ووصلت الطائرة في موعدها المحدد وأنزلوا جثمان الميت باسعاف المطار داخل تابوت حتى البوابة ثم أدخلوه الى سيارتي فتوجهت به الى منزل أخاه بجدة حيث كان بعض الأخوة بانتظارنا هناك،وفي عجلة قام الاخوة باحضار خشبة الغسل من أقرب مسجد وتجهيزه مكان الغسل والكفن وطلبت من الاخوة انزال التابوت وبه الجثمان من السيارة وفتحنا التابوت وأخرجنا الميت منه ووضعناه على خشبة الغسل ووضعت سترة الغسل عليه لتجريده من ملابسه وكان أخونا بالله ممتلئ الجسد وغسله كان سريعا لم نصادف أي عقبات ونواقص في تجهيزه وحملناه على خشبة النعش وطيبناه وكفناه وأدخلناه مجلس المنزل وكانت الساعة تشير الى الواحدة صباحا ويحضر مرافقيه من المطار وشاهدنا رحميه نقف خارج المنزل ظنا أننا ننتظره ودخل مسرعا مشمرا ثيابه لمساعدتنا وسأل أين مكان الغسل؟ قلت:لقد آنتهينا وهناك وقت كافي قبل صلاة الفجر وندفنه في مكة المكرمة على مسؤوليتي ،والمتبع هنا يا اخوان يمنع الدفن في مكة المكرمة في شهر ذي الحجة فقط كما ذكرت سابقا لكثرة الحجيج والازدحام ويسمح ببقية السنة بشرط اجباري لا بد من اعطاء نقطة تفتيش الشميسي صورة من تصريح الدفن وشهادة تبليغ الوفاة وعدم وجودها يتم رفض دخول الجنازة الى مكة المكرمة وفي هذا الوقت هناك ثلاث نفقات تفتيش عند دخولك الى مكة المكرمة ولا بد أن نقف بها جميعا لاثبات الهويات
سبحان الله نتوجه الى مكة وسيارات مرافقين الميت من أقاربه وأصدقائه من الخلف وامام سيارة الاسعاف ونقترب من نقطة التفتيش الأولى ويتم سؤال هويات المرافقين من جميع السيارات من الأمام والخلف ولا يتم سؤالي عما في داخل السيارة وكذلك في النقاط الأخرى وكنت أنا ممسك بصورة تصريح الدفن وتبليغ الوفاة من نافذة السيارة للخارج ومع ذلك مررت من جانب رجل الأمن ولم يستوقفني ويأخذ التصريح حتى أنه لم ينظر الي ،ودخلنا مكة المكرمة قبل أذان وصلاة الفجر بساعتين وأكثر تقريبا واذا ذهبنا بالجنازة الى الحرم المكي بهذا الوقت مبكرا فسوف يطلب منا رجال الأمن عند بوابات الحرم بانزال الجنازة عند مدخل الحرم ويطلب منا الصلاة على الجنازة جماعة وحملها للمقبرة للدفن نظرا لشدة ازدحام الحجاج وأهل الميت يريدون الصلاة عليه داخل الحرم
فقال أخاه: دعنا يا شيخ نذهب بالجنازة الى منزل الوالد مع الوالده وزوجته هناك ليشاهدوه ويسلموا عليه حتى قرب أذان الفجر ندخله الحرم المكي وكان منزلهم قريب من الحرم فتوجهت الى المنزل وأدخلت الاسعاف الى الفناء وقال أخاه:لا تنزله يا شيخ من السيارة فقط آفتح الباب الجانبي وآكشف الكفن عن وجه أخي وسوف ينزلوا أفراد الأسرة للسلام عليه وتوديعه وهو داخل السيارة فقمت بذلك ثم أشاهد والده ينزل من المنزل وهو محمول على الأكتاف معانق من قبل معارفه ليس لكبر سنه ولكنه كان منهار القوى لهول المصيبة وأدخلوه الى السيارة
وشاهد آبنه ممددا بكفنه ووجهه مكشوف وقام بتقبيل جبينه وهو يبكي بداخل هستيريا ينتفض جسده كاملا ولم يتحمل المنظر ووقع من طوله بداخل السيارة على رجليه وأنزلوه من السيارة وهو منهار وأردت أن أقفل الكفن كما كان بجنبي رحميه وهنا كانت العبرة يا اخوان وهنا الشاهد بالقصة يا اخوان رأيت منظر رهيب جدا لم أرى مثله في حياتي ولا في مدة عملي في هذا المجال ،ماذا رأيت؟.
رايت عينيه اليمنى تدمع بشكل غريب وكأنه يبكي دموع تخرج من عينه اليمنى وتسيل على خده وتبلل الكفن من تحت خده الأيمن فقلت في نفسي :يمكن طول مدة بقاءه داخل الكفن أو السيارة مع العلم أن مكيف الاسعاف كان على أعلى درجة من البرودة فقمت بمسح الدموع بثوب الكفن من ناحية رأسه وأقفلت على وجهه واذا برحيمه الذي شاهد المنظر
يقول لأخيه:هل شاهدت فلان وهو يبكي ؟ قال:لا،قال:آذهب وىنظر اليه ثم حضر أخاه وطلب مني أن أكشف عن وجه أخيه قلت:لقد شاهدت قال:لا يا شيخ أريد أن يرى أخاه هذا المنظر أرجوك يا شيخ آكشف عن وجهه فكشفت عن وجهه للمرة الثانية وهنا كانت المفاجأة ما زالت الدموع تخرج من عينه اليمنى فقط وشاهد أخاه هذا المنظر فما كان الا أن يرتمي الى صدر أخيه ويقبله بجبينه وهو يبكي ويحضنه بقوة منظر مؤثر رهيب يا اخوان لم أشاهد مثله مدة عملي في هذا المجال بعد طول هذه المدة يموت يوم الثلاثاء خارج المملكة ويوضع في الثلاجة لمدة يوميين ثم شحن بطائرة في تابوت الى المملكة ونقوم بتجهيزه والسفر به الى مكة ونشاهد الدموع تخرج من عينه اليمنى فقط وهناك الفرق يا اخوان بين دموع العين وعرق الجسم ثم آنتظرنا حتى الأذان الأول من الفجر قبل الذهاب به الى الحرم للصلاة عليه لماذا انتظرنا يا اخوان ؟
انتظرنا كما ذكرت سابقا لازدحام الحجيج في هذا اليوم الخميس وأكثرهم صيام فاذا وصلنا في الجنازة مبكرا سيتم رفض دخول الجنازة الى الحرم لطول الوقت من قبل أمن البوابة ويطلب انزال الجنازة بجانب المدخل والصلاة عليها جماعة مبكرا مع أهل الميت والحاضرين وحملها للدفن بسبب شدة الازدحام وعدم تأخير الجنازة بعد الأذان الأول توجهت الى المدخل الرئيسي لدخول الجنائز المؤدي الى باب السلام فاذا برجل أمن المدخل يمنعني من الدخول فقلت له:معي الجنازة قال:أعرف لكن أين تدخل آنظر أمامك الحجاج لقد افترشوا الشارع حتى المدخل للصلاة قلت:أين أذهب بالجنازة؟
قال:آذهب من المدخل الرئيسي من الشارع العام بالغزة ذهبت مسرعا وقبل أن أصل الشارع العام يستوقفني رجل المرور يقول لي: أين تذهب؟ قلت: معي جنازة قال:آنظر أمامك الحجيج يفترشون الشارع مثل الجراد في زحف وتقدم الينا لن تستطيع الدخول لكن أقول لك آنزل بالجنازة هنا لحملها داخل الحرم
قلت:لا بد أن أذهب الى المقبرة قبل الجنازة لاعطائه وصل تصريح الدفن وصورة تبليغ الوفاة قال:بعد انتهاء الصلاة ادعك تخالف السير للذهاب للمقبرة ،يا اخوان فقط كلمتين مع رجل المرور من زجاج السيارة ثم أردت الخروج لفتح باب السيارة الخلفي لاخراج الجنازة فنظرت أمامي فوجدت جنازة محمولة على الأكتاف تسير من أمام السيارة وقبل أن أنزل من السيارة قام الحجاج بفتح باب السيارة وأخرجوا الجنازة وحملوها الى الحرم ويقول لي أحد المرافقين للجنازة انه لم يستطيع حمل الجنازة سوى مرة واحدة من كثرة من يحملونها وصليت الفجر بجانب السيارة وبعد الانتهاء من الصلاة سمعت إمام الحرم وهو يقول الصلاة على الأموات يرحمكم الله ،
كان في ذلك اليوم ثمانية جنائز صلوا عليها بالحرم (5)رجال و(3)نساء صلوا عليهم أكثر من 2مليون مسلم وكانت الجنائز يذهبون بها المقابر الممتلئة والجنازة التي نحملها أول جنازة تدفن ويقوم بانزال الجنازة في القبر وتاحيد الميت وفك الأربطة وتغطية القبر بالتراب ووقف الكثير من المرافقين للجنازة وكان يغلبهم كثرة الحجاج بإحرامهم وقفوا على شفير القبر يدعوا للميت في الفجر المبارك من الشهر المحرم بعد أن صلوا عليه ودعا له بالحرم اكثر من2مليون مسلم .
انظروا الى هذا الأجر وهذه الميتة ،أسال الله أن يتقبل دعواهم ويتغمد هذا الميت برحمته ،ولكن ما قصة هذا الميت ؟.
قمت بسؤال بعض الحاضرين عنه فكانت اجاباتهم من كلمتين فقط كذلك أقربائه نفس الاجابة ،ماذا كانت تلك الاجابة؟
كلهم أجمعوا أن هذا الشاب كان رضي بوالديه ،فقط عندما سمعت الاجابة أولا تعجبت لكن عندما جلست مع نفسي تذكرت أن ذلك ليس بغريب على قول الله تعالى(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا )).
وأسأل الله لي ولكم حسن الخاتمة في الدنيا والآخرة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]