قال د. محمد بن عبدالله السحيمي :... جناية المربي
على من تحت يديه – له شأن عظيم في الدنيا والآخرة –
ما ذاك إلا لأن الآثار
السيئة لجناية المربي لا تقتصر على لحظة الخطأ بل تتعداه إلى أبعد من
ذلك
فتورث الولد سلوكا مذموما قد لا يستطيع التخلص منه
وقد يعاني من
آثاره وهو لا يعلم أن الجاني عليه في هذه الآثار هو أقرب الناس إليه ...
وفي
هذا العصر الذي فتحت في الآفاق بالاتصال المرئي وغيره
يتوجب على المربي أن
يكون أكثر حيطة وأبلغ عناية وأقرب رعاية لمن تحت يده
لئلا يقع الولد في شباك
قنوات ومواقع الشبهة والشهوة ...
فليعتصم المسلم بربه وليتعاهد ذريته
ويتبين سبيل عدوه وليعلم أن كيده ضعيف إذا اتقينا الله وتوكلنا عليه
ومن يتوكل على الله فهو حسبه
الخطأ
الأولالتربية على توافه الأمور
قال د . محمد بن عبد الله السحيمي
:الكثير من أبنائنا يتقدم به عمره وتسير به أيامه وهو لا يعرف هدفه
...
بسبب تربية جعلت وسائله غايات وشغلته بالمتيقّن عن
المظنون
وعلقته - بل ربطته – بقضايا تافه
وتطلعات أرضية
يتساوى فيها المسلم والكافر بل قد يتفوق فيها الحيوان على الإنسان
فأصبح
همه الملازم وشغله الشاغل التفكير بلقمة العيش والاستعداد والتهيؤ لتبعات ذلك
ولتتحقّق من ذلك :
أطرح على كثير من طلابنا السؤال التالي
: لِمَ تدرس ؟؟
ستفاجؤك إجابة السواد الأعظم وسيكون الهدف من الدراسة
:
الحصول على لقمة العيش والمكانة المرموقة والبيت الواسع والمركب
الفاره ..
ويعزز ذلك هذا الفرح الغامر بالعُطل والإجازات
وهذا النهم – من قبل كثير منهم – بالغش في الامتحانات لو أتيحت لهم
الفرصة ..
مما يؤكد أن الطالب لم يقتنع بجدوى هذا التعليم
بل يراه وسيلة لتحقيق آمال واقتطاع طريق لا بدّ من اقتطاعه حتى ينال ما
تصبوا إليه نفسه ..
ولو اعتقد أن عليه واجبا تجاه دينه وأمته
وأن السبيل لأداء هذا الواجب هو العلم الذي سيرفعه في الدنيا والآخرة
ويعيد أمته إلى مكانتها المرموقة في ذروة المجد
لا
سترخص كل جهد ووقت يبذله ويمضيه في هذا السبيل
لا
ستخسر كل جهد ووقت يبذله في غير هذا الأمر
ومن مساوئ هذا التوجيه التربوي الخاطئ :قصر
النفس على الشهوات
وإخلادها إلى الصغار
وشغلها عن
الغايات
ورضاها بالدون وتطامنها عن المعالي
وتعطيل الطاقات
التي أودعها الله في هذا الإنسان ... عن غاياتهم السامية النبيلة
وإتاحة الفرصة أمام أعدائهم في اغتباطهم بدوام غفلة هذه الأمة عما يراد
بها ...
وبمقارنة
آمال أبناء الأمة في هذا العصر بمن أخبر الله عنهم في القرآن من
الأنبياء والمؤمنين وما حفلت به كتب السنة والسيرة
تفجعك الكارثة وتذهلك
المصيبة
فآمال أولئك الصالحين تتجاوز الجوزاء، وتمتد لتحتوي الزمن
القادم...
فتأمل هذا الدعاء النبوي الذي دعا به إبراهيم الخليل وإسماعيل
عليهما السلام
وأخبرنا به ربنا جل وعلا في محكم تنزيله فقال:
(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً
مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)
فتأمل هذا الدعاء
النبوي عبر هذا السياق القرآني، تجده تضمن:
أولاً: الدعاء بأن يكون هو
وذريته مسلمين لله
ثم كأنه تطلع إلى آفاق المستقبل، فتصور أحفاده وهم
يحيطون بهذا البيت
وقد تقادم بهم عهد النبوة، وانقطع عنهم هدي
الرسالة
فتاهوا في دياجير الظلام، وأيقن أنه لا مخرج لهم من هذه الظلمات
إلا من خلال رسالة إلهية
فعندئذ دعا ربه قائلاً: (رَبَّنَا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولاً ) ...
إذاً كان
أمله أن يبعث الله في ذريته نبياً
لم يكتف أن يكون مسلماً، ولا أن تكون
ذريته مسلمة
بل أن يكون في أحفاده نبي يدعوهم إلى الحق، ويهديهم إلى
الصراط المستقيم
هذا مثال :
ومثال
آخرأخبرنا الله عنه حينما ذكر صفات عباد الرحمن، فقال عز من
قائل:
(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا
وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ
إِمَاماً)
فسألوا الله أن يجعل أزواجهم وذرياتهم قرة أعين
لهم
وأن يكونوا هم وذرياتهم أئمة للمتقين حقبة بعد حقبة
في
عصرهم وفي العصور التالية
إنّه التطلع إلى الأمام، والرغبة في ريادة
الأمة وقيادتها في مواكب المتقين...
وحينما نستعرض بعض الأمثلة من صحابة
رسول الله
نتبين كيف تؤتي التزكية المباركة أعظم ثمارها ...
ومن هذه النماذج:• خبر ابني عفراء في غزوة بدر:يقول عبد الرحمن بن عوف رضي
الله عنه مخبراً عما رأى في بدر:
" إنني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا
عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن
فكأني لم آمن بمكانهما
إذ
قال لي أحدهما سرا من صاحبه : يا عم، أرني
أبا جهل؟!
فقلت: يا ابن أخي ، وما تصنع به
؟
قال : عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت
دونه
وقال لي الآخر سرا من صاحبه
مثله
قال : فما سرني أني بين رجلين مكانهما
فأشرت إليهما فشدا عليه مثل الصقرين فضرباه حتى برد )
*
*السيرة النبوية لابن هشام
والمتأمل في
هذه الحديث يقف على أمور منها :* أن المجتمع المسلم آنذاك كالصف
الواحد، وكالبنيان المرصوص
كل يرى أن عليه واجباً تجاه دينه ونبيه
وأمته
كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم دون استثناء لأحد
منهم
* المسارعة والمسابقة إلى الإعمال الصالحة ...
يوضح ذلك
أن ابني عفراء - وهما أخوان - وكلّ منها لم يخبر أخاه بما هو صانع في هذه المعركة
لئلا يسبقه
* الهمة العالية إذ لم يكتف كل منهما بالمشاركة في المعركة -
رغم صغر سنهما-
بل يعاهد الله تعالى على أنه إن رأى أبا جهل أن يقتله أو
يموت دونه ...
* إذا رنت أنظار الشباب إلى الهمم العالية
دفع ذلك بقية أفراد الأمة إلى مضاعفة الجهود ...
وارجع
البصر إلى قول عبد الرحمن بن عوف قبل أن يعرف آمال هذين الشابين
وقوله
بعد أن عرف غايتهما
• تسابق الغلمان للمشاركة في معركة
أحد:
حينما احتشد المسلمون - أيما احتشاد - استعداداً لغزوة
أحد
وتقدم حتى الغلمان طلباً للمشاركة في هذه المعركة
وأشفق
عليهم الرسول الرحيم الرءوف، فرد منهم من رد لصغر سنه ...
فشفع أبو رافع
لابنه، وقال: "يا رسول الله، إن ابني رافعاً رامٍ * "
*أي يجيد الرمي فأجازه النبي عليه الصلاة والسلام
*
*تأمل موقف هذا الأب! انه يشفع إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلّم أن يجيز ابنه في هذه المعركة
إنه لا يشفع ليشارك ابنه في رحلة
سياحية أو دورة دراسية أو مغنمٍ دنيويّ أو وجاهة اجتماعية
بل يشفع ليدخل ابنه في
معترك الرجال وجلاد السيوف ونضح النبال وضرب الرقاب
وهنا يظهر أثر التربية
الصادقة التي تورث الهمم العاليةفيتقدم سمرة - الذي رده النبي
صلى الله عليه وسلّم - قائلاً :
لقد أجزت رافعاً ورددتني، ولو صارعته
لصرعته
ووقعت المصارعة بين رافع وسمرة، فصرع سمرة رافعاً، فأجازه الرسول
عليه الصلاة والسلام
إن تسارع هؤلاء الغلمان إلى المعركة، وتنافسهم في
المشاركة فيها
يعجز أي قلم عن التعبير عنه، مهما كان
سيّالاً
ويلجم أي خطيب عن التعليق، وإن كان مفوّهاً ...
وبعد هذا التطواف مع هذه النماذج الإيمانية
ينتقل السياق والحديث إلى ما ينبغي على المربي عمله تجاه من
يربيه
وحتى نجنب ولدك ومن تربيه مهاوي الردى ...
ينبغي عليك أن تغرس فيه منذ الصغر استشعار
إسلامه
وأنه يجب أن يخالف- بل يتميز - عن الكفار في كل أمر؛ في مظهره،
ومخبره، وفي غاياته وآماله
وأن يستشعر أنه ينتسب إلى أمة موصولة بالله
وهي تسير على هدى الله وتملك مالا تملكه سائر البشرية
وهو
كتاب الله ومنهج الله ونور الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم
وأن
يعلم منذ صغره
أن أمته تواجه من أعدائها أعتى الحملات، وأعنف
الهجمات
فتُنهب خيراتُها ويُشرّد أبناؤها وتُستحل وتُنتهك حرماتُها
وتُستباح أراضيها
ولذلك فهي تنتظر من كل أبنائها البررة - وأنت منهم –
أن يكون كلّ فرد منهم على ثغرة من ثغورها
فيسد الخلل، ويجبر
الضعف، ويكمل النقص، ويعينها على نوائب الدهر وصروف الزمان
كما ينبغي أن
توجه إليه - بين آونة وأخرى -
عبارات تشعره بذلك وتحفزه بل تدفعه إلى
المشاركة في تحقيق آمال الأمة، من مثل قولك:
يا بُنيّ
! أعدّ نفسك لأن يُكتَبَ نصرُ الإسلام على يدك
يا بُنيّ ! ألم يُنصر الإسلام على أيدي رجال
أفذاذ
كأبي بكر رضي الله عنه يوم الردة والإمام أحمد يوم
المحنة؟
ألست رجلا مثلهم؟
يا بُنيّ!
حاول يا بني وتذكّر قوله تعالى:
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ)
ألم تعلم أنك حينما تجاهد نفسك لتحقيق هذا الأمر فأنت
مأجور - إن شاء الله –
سواء تحقق على يديك أم لم يتحقق؟!
يا بُنيّ !
إن الأمة تنتظر منك أن تكون
العالم المفتي والقاضي العدل والإمام
الحافظ والمسئول الأمين والقائد المحنّك والتاجر الصادق الناصح
يا بُنيّ ! إن كنت طبيباً أو مهندساً أو ما شئت أن
تكون
فاحرص أن يكون هدفك من هذا التخصص أن تغني الأمة عن
الكافرين
وأن تكون في أي موقع شغلته الطبيب المسلم، والمهندس
المسلم
الذي ينصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين
وعامتهم
فالله الله أن يؤتى الإسلام من قِبلك
يا بُنيّ ! أنت رجل مسلم والرجل المسلم من أبناء الآخرة وليس من
أبناء الدنيا
فاحرص على أن تكون من ورثة جنة النعيم لتفز برضا رب
العالمين
يا بُنيّتي ! كوني داعية تحمل هم هذا
الدين وتحمل مشعل الهداية إلى الآخرين
احفظي القرآن العظيم
وتزودي من العلم النافع الذي يؤهلك لدلالة ذويك ومجتمعك إلى الصراط
المستقيم
يا بُنيّتي ! لقد أنبأنا الله سبحانه
وتعالى في محكم تنزيله
أنه سبحانه عرض الأمانة على السموات والأرض
والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها
وحملها الإنسان . والإنسان لفظ
يشمل الذكر والأنثى
فأنت مسئولة عن هذه الأمانة هل حملتيها حق حملها أم
أضعتيها ، وتُضَيعين ؛ فتَضِيعين يوم القيامة
يا
بُنيّتي! أعدي نفسك لمواجهة هذا السيل الجرار من الهادمات
قومي
بدورك واعلمي أن الله ناصرك ومعينك
أفتكون قرينتك وصاحبتها تعمل كل هذا
العمل
وأنت وآلاف الخيرات من أمثالك الطيبات لا تقدمن حراكا
إنّ مهمة المربي
أن يفتح آفاق الحياة أمام ناظري من يربيه
وأن يحمله بعض آلام هذه
الأمة
وأن يهيئه نفسياً للقيام بدوره
وأن يهيب به لإعداد
نفسه لملء الفراغ وسد الثغرة وإغناء الأمة بأبنائها عن أعدائها .
من
أخطائنا في تربية أولادنا وطرق علاجها في الإسلام
تأليف / د. محمد بن عبد الله
السحيم
يتبع