ثم لما ذكر عقاب المجرمين ذكر ثواب
المؤمنين، وهذه هي طريقة القرآن في عرض الترغيب والترهيب، والقرآن الكريم
مثاني، تذكر فيه المعاني المتقابلة، فيذكر فيه عذاب أهل النار ونعيم أهل
الجنة، صفات المؤمنين وصفات الكافرين، من أجل أن يكون الإنسان سائراً إلى
الله تعالى بين الخوف والرجاء، فيعرف نعمة الله عليه بالإسلام، ويعرف حكمة
الله تعالى في وجود هؤلاء الكافرين المجرمين. ويزداد حذرا من ذلك {إن
الذين آمنوا} هم الذين آمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر،
والقدر خيره وشره فإن هذا هو الإيمان كما فسره النبي صلى الله عليه وعلى
آله وسلم حين سأله جبريل عن الإيمان فقال: «أن تؤمن بالله، وملائكته،
وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره»(87)، وأما قوله: {وعملوا
الصالحات} فالمراد عملوا الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة هي التي بنيت
على الإخلاص لله، واتباع شريعة الله، فمن عمل عملاً أشرك به مع الله غيره
فعمله مردود عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه
أنه تعالى قال: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري
تركته وشركه»(88).
وأما المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن من عمل عملاً
ليس على شريعة الله فإنه باطل مردود، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»(89)، وبناء على ذلك تكون عبادة
المرائي الذي يعبد الله لكن يرائي الناس أي يظهر العبادة ليراه الناس
فيمدحوه وهو لا يريد التقرب إلى الناس، يريد التقرب إلى الله لكن يريد أن
يمدحه الناس على تقربه إلى الله وعبادته لله فهذا مراءٍ وعمله مردود أيضاً،
كذلك من تكلم بكلام قرآن أو ذكر ورفع صوته ليسمعه الناس فيمدحوه على ذكره
لله فهذا أيضاً مراءٍ، عمله مردودٌ عليه؛ لأنه أشرك فيه مع الله غيره، أراد
أن يمدحه الناس على عبادة الله، أما من تعبد للناس فهذا مشرك شركاً أكبر
يعني من قام يصلي أمام شخص تعظيماً له، لا لله، وركع للشخص وسجد للشخص فهذا
مشرك شركاً أكبر مخرجاً عن الملة، ومن ابتدع في دين الله ما ليس منه كما
لو رتب أذكاراً معينة في وقت معين فإن ذلك لا يقبل منه، حتى ولو كان ذكر
الله لو كان تسبيحاً، أو تحميداً، أو تكبيراً، أو تهليلاً ولكنه رتبه على
وجه لم ترد به السنة فإن ذلك ليس مقبولاً عند الله عز وجل؛ لأنه عمل عملاً
ليس عليه أمر الله ورسوله، فالمهم أن الله اشترط مع الإيمان العمل الصالح،
وبهذا نعرف أنه لا ينبغي لنا أن نركز دائماً على العقيدة، ونقول: نحن على
العقيدة الإسلامية وعلى كذا، وعلى كذا، ولا نذكر العمل؛ لأن مجرد العقيدة
لا يكفي لابد من عمل، فينبغي عندما تذكر أننا على العقيدة الإسلامية ينبغي
أن تقول ونعمل العمل الصالح؛ لأن الله يقرن دائماً بين الإيمان المتضمن
للعقيدة وبين العمل الصالح، حتى لا يخلو الإنسان من عمل صالح، أما مجرد
العقيدة فلا ينفع لو أن الإنسان يقول أنا مؤمن بالله لكن لا يعمل فأين
الإيمان بالله؟ ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء أن تارك الصلاة
كافر كفراً مخرجاً عن الملة وقد بينا أدلة ذلك في رسالة لنا صغيرة، يغني عن
إعادتها هنا. {لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} {لهم} يعني عند الله {جنات
تجري من تحتها الأنهار} وذلك بعد البعث فإنهم يدخلون هذه الجنات التي فيها
ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهذا قال الله تعالى:
{فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة:
17]. وقال الله في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت،
ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»(90). لأن فيها من النعيم ما لا يتصوره
الإنسان والله تعالى يذكر في الجنات: نخلاً، ورماناً، وفاكهةً، ولحمَ طير،
وعسلاً، ولباًن، وماءً، وخمراً، لكن حقائق هذه الأشياء ليست كحقائق ما في
الدنيا أبداً، لأنها لو كانت حقائقها كحقائق ما في الدنيا لكنا نعلم ما
أخفي لنا من هذا، ولكنها أعظم وأعظم بكثير مما نتصوره، فالرمان وإن كنا
نعرف معنى الرمان، ونعرف أنه على شكل معين، وطعم معين، وذو حبات معينة، لكن
ليس الرمان الذي في الآخرة كهذه فهو أعظم بكثير، لا من جهة الحجم، ولا من
جهة اللون، ولا من جهة المذاق، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ليس في
الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء فقط)(91)، أما الحقائق فهي غير
معلومة. وقوله: {تجري من تحتها الأنهار} قال العلماء: {من تحتها} أي من تحت
أشجارها وقصورها وإلا فهي على السطح فوق، ثم هذه الأنهار جاء في الأحاديث
أنها لا تحتاج إلى حفر ولا تحتاج إلى بناء أخدود(92)، وفي هذا يقول ابن
القيم في النونية:
أنهارها في غير أخدود جرت
سبحان ممسكها عن الفيضان
الأنهار في المعروف عندنا تحتاج إلى حفر، أو إلى أخدود تمنع من تسرب الماء
يميناً وشمالاً، لكن في الجنة لا تحتاج إلى أخدود، تجري حيث شاء الإنسان،
يعني يوجهها كما شاء بدون حفر، وبدون إقامة أخدود، والأنهار في هذه الآية
وفي آيات كثيرة مجملة لكنه فصلت في سورة القتال ـ سورة محمد ـ قال: {مثل
الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير
طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} [محمد: 15]. {ذلك
الفوز الكبير} {ذلك} المشار إليه الجنات وما فيها من النعيم {الفوز الكبير}
يعني الذي به النجاة من كل مرهوب وحصول كل مطلوب؛ لأن الفوز هو عبارة عن
حصول المطلوب وزوال المكروه، والجنة كذلك فيها كل مطلوب، وقد زال عنها كل
مرهوب، فلا يذوقون فيها الموت، ولا المرض، ولا السقم، ولا الهم، ولا النصب.
ثم قال تعالى: {إن بطش ربك لشديد} {بطش} يعني أخذه بالعقاب ، والشديد
القوي كما قال تعالى : )اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة:98) فبطش الله يعني أنتقامه
وأخذه شديد عظيم ولكنه لمن يستحق ذلك أما من لا يستحق ذلك فإن رحمة الله
تعالى أوسع ، ما أكثر ما يعفو الله عن الذنوب وما أكثر ما يستر من العيوب،
ما أكثر ما يدفع من النقم، وما أكثر ما يجري من النعم، لكن إذا أخذ الظالم
لم يفلته كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إن الله ليملي للظالم حتى
إذا أخذه لم يفلته»، وتلى قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي
ظالمة إن أخذه أليم شديد}(93){هود : 102}، وعلى هذا فنقول: {بطش ربك} أي
فيمن يستحق البطش، أما من لا يستحقه فإن الله تعالى يعامله بالرحمة،
ويعامله بالكرم، ويعامله بالجود، ورحمة الله تعالى سبقت غضبه {إنه هو يبدىء
ويعيد} {الروم : 27} يعني أن الأمر إليه ابتداء وإعادة وهذا كقوله تعالى:
{وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} فهو الذي بدأ الأشياء، وإليه تنتهي
الأشياء، الأشياء منه وإليه في كل شيء، الخلق من الله وإليه، الشرائع من
الله وإليه، كل الأمور من الله وإليه، ولهذا قال {يبدأ} ولم يذكر ما الذي
يبدؤه، فمعناه {يبدأ} كل شيء، ويعيد كل شيء، فكل الأمر بيده عز وجل، فاعرف
أيها العبد من أين أنت، وأنك ابتدأت من عدم، واعرف منتهاك وغايتك، وأن
غايتك إلى الله عز وجل {وهو الغفور الودود} {الغفور} يعني ذو المغفرة،
والمغفرة ستر الذنب والعفو عنه فليست المغفرة ستر الذنب فقط بل ستره وعدم
المؤاخذة عليه كما جاء في الحديث الصحيح: «إن الله يخلو بعبده المؤمن يوم
القيامة ويقرره بذنوبه حتى يقربها ويعترف فيقول الله عز وجل: قد سترتها
عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»(94)، ويُذكر أن بني إسرائيل كانوا
إذا أذنب الواحد منهم ذنباً وجده مكتوباً على باب بيته فضيحة وعاراً(95)،
لكننا نحن ولله الحمد قد ستر الله علينا، فعلينا أن نتوب إلى الله ونستغفره
من الذنب فتمحى آثاره، ولهذا قال: {وهو الغفور} أي الساتر لذنوب عباده
المتجاوز عنها. {الودود} مأخوذة من الود، والود هو خالص المحبة فهو جل وعلا
ودود، ومعنى ودود أنه محبوب وأنه حاب، فهو يشمل الوجهين جميعاً، قال الله
تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله
بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54]. فهو جل وعلا واد يحب الأعمال، ويحب
الأشخاص، ويحب الأمكنة وهو كذلك أيضاً محبوب يحبه أولياؤه {قل إن كنتم
تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]. فكلما كان الإنسان أتبع
لرسول الله صلى الله عليه وسلّم كان أحب إلى الله، فهو جل وعلا وادٌ وهو
أيضاً مودود، أي أنه يُحِب ويُحَب، يِحب سبحانه وتعالى الأعمال ويحب
العاملين، ويحب الأشخاص يعني أن محبة الله قد تتعلق بشخص معين مثل قول
الرسول عليه الصلاة والسلام في يوم خيبر: «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب
الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» فبات الناس ثم غدوا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلّم كلهم يرجوا أن يُعطاها فقال: «أين علي بن أبي طالب»؟
قالوا: يشتكي عينيه فدعا به فأتى فبصق في عينه فبرأ كأن لم يكن به وجع في
الحال، ثم أعطاه الراية وقال: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم
إلى الإسلام»(96). الشاهد قوله: (يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) فهنا
أثبت أن الله يحب هذا الرجل بعينه علي بن أبي طالب، ولما بعث النبي صلى
الله عليه وسلم رجلاً على سرية صار يقرأ لهم في الصلاة ويختم القراءة بـ{قل
هو الله أحد} فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أخبروه بذلك، لأن
عمله هذا وهو أنه يختم القراءة بـ {قل هو الله أحد} غير معروف، فقال: «سلوه
لأي شيء كان يصنع ذلك»؟ فسألوه فقال: إنها صفة الله وأنا أحب أن أقرأها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أخبروه أن الله يحبه»(97)، فهنا المحبة
علقت بشخص معين يحبه الله، وقد تكون محبة الله بمعينين بأوصافهم مثل: {إن
الله يحب المتقين} {إن الله يحب المحسنين} {إن الله يحب الذين يقاتلون في
سبيله صفًّا كأنهم بنيان مرصوص} [الصف: 4]. هذها ليست في شخص معين لكن في
شخص موصوف بصفة، كذلك يحب الله سبحانه وتعالى الأماكن «أحب البقاع إلى الله
مساجدها»(98)، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن مكة أحب البقاع إلى
الله(99) هذه المحبة متعلقة بالأماكن فالله تعالى يُحِب ويُحَب ولهذا قال:
{وهو الغفور الودود}. ثم بين عظمته وتمام سلطانه في قوله: {ذو العرش} أي
صاحب العرش، والعرش هو الذي استوى عليه الله عز وجل، وهو أعظم المخلوقات
وأكبرها وأوسعها، وقد جاء في الأثر أن السماوات السبع والأراضين السبع
بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة في الأرض، وأن فضل العرش على
الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة(100)، حلقة الدرع صغيرة ألقيت في فلاة
من الأرض ليست بشيء بالنسبة لها، «وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة
على هذه الحلقة»، إذن لا أحد يقدر سعته، وإذا كنا نشاهد من المخلوقات
المشهودة الآن التباين العظيم في أحجامها. ولقد أطلعني رجل على صورة الشمس
وصورة الأرض، فوجدت أن الأرض بالنسبة لهذه الشمس كنقطة غير كبيرة في صحن
واسع كبير، وأنها لا تنسب إلى الشمس إطلاقا، فإذا كان هذا في الأشياء
المشهودة التي تدرك بالتلسكوب وغيره فما بالك بالأشياء الغائبة عنا لأن ما
غـاب عنا أعظم مما نشاهد قال الله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}
[الإسراء: 85]. فالحاصل أن العرش هو سقف المخلوقات كلها، عرش عظيم استوى
عليه الرحمن ـ جل وعلا ـ كما قال تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5].
وقوله: {المجيد} فيها قراءتان (المجيدِ) و(المجيدُ) فعلى القراءة الأولى
تكون وصفاً للعرش، وعلى الثانية تكون وصفًّا للرب عز وجل، وكلاهما صحيح
فالعرش مجيد، وكذلك الرب عز وجل مجيد، ونحن نقول في التشهد إنك حميد مجيد.
{فعال لما يريد} هذا وصف لله تعالى بأنه الفعال لما يريد فكل ما أراده
سبحانه فهو يفعله ، ولا يمنعه من فعله مانع ؛ لأن له ملك السموات والأرض ،
ولا يمنعه أحد من أن يفعل في ملكه ما يشاء ؛ وهذا كقوله تعالى : )
وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء)(ابراهيم:
من الآية27) فالخلق كلهم مهما كانوا لا يستطيعون أن يفعلوا ما يشاءونه. بل
قد يريدون الشيء إرادة جازمة ، ولكن إذا لم يرد الله أن يقع منهم ذلك الشيء
صرفهم الله عن فعله ، ومنعهم منه ، وحال بينهم وبين تنفيذه ، أما الرب
تبارك وتعالى فإنه فعال لما يريد ، فإذا أراد شيئاً قال له كن فيكون ، ففي
هذه الآية الكريمة إثبات إرادة الله إرادة كاملة تامة في خلقه وفيما يتعلق
بأفعال الخلق ، فلا يكون فعل من الناس إلا بإرادة الله ، كما قال سبحانه :
)لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ*وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير 28-29) . فبين الله سبحانه
في هذه الآية أن مشيئة العباد مرتبطة بمشيته هو سبحانه ، كما قال : )
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ
آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)(البقرة: من الآية253) فإرادة الله
شاملة لما يكون من فعله ، ولما يكون من فعل العباد وأضرب لكم مثلاً بذلك :
فأنا لو تكلمت بكلامي هذا أو بغيره أو ما سبقه من الكلام ، فكل كلامي كائن
بإرادة الله ، ولو شاء الله ألا أتكلم ما تكلمت ولعجزت عن الكلام وإذا شاء
ان اتكلم تكلمت فتنبعث من قلبي إرادة للكلام فأتكلم . ولهذا قال سبحانه
وتعال : )فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (البروج:16) ، ثم قال تعالى: )هَلْ
أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) (البروج:17)
والخطاب هنا موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصح أن يتوجه
إليه بالخطاب ، والاستفهام للتنبيه. لأن الشيء إذا جاء بالاستفهام انتبه له
الإنسان أكثر (الجنود) جمع جند وهو هنا مبهم لكنه فسره بقوله :
)فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) (البروج:18) يعني هل أتاك خبرهم ، ؟ والجواب نعم ،
أتانا خبرهم فقد قص الله سبحانه وتعالى علينا من نبأ فرعون ونبا ثمود ما
فيه العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . فقصة فرعون ذكرها الله
تعالى في آيات كثيرة وفي سور متعددة كمقدمة بين يدي سلف موسى عليه السلام
وكما هو معروف أن موسى مبعوث لبني اسرائيل ، وقص الله سبحانه على رسول الله
صلى الله عيله وسلم من نبأ موسى عليه السلام مالم يقصه من نبأ غيره، لأن
النبي صلى الله عليه وسلم سوف يكون مهاجره إلى المدينة التي بها ثلاث
قبائل من اليهود ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم من نبأهم الشيء
الكثير من أجل أن يكون على استعداد لمناظرتهم ومجادلتهم بالحق حتى لا يخفى
عليه من أمرهم شيء ..
وفرعون ملك مصر، وهل هو علم شخص يسمى باسم فرعون أم وصف لكل من ملك مصر وهو
كافر؟ من العلماء من قال : إنه علم شخص أي أنه الذي أرسل إليه موسى عليه
السلام هو فرعون وهذا اسمه ، ومنهم من قال : أنه علم وصف لكل من ملك مصر
كافراً ، كما يقال : كسرى لكل من ملك الفرس ، وهرقل لكل من ملك الروم ،
والنجاشي لكل من ملك الحبشة ، وما أشبه ذلك ..
وفرعون هذا كان جباراً عنيداً متكبراً يدعي أنه الرب كما قال : ) أَنَا
رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)(النازعـات: من الآية24) وأدعى أيضاً الألوهية حينما
قال : ) مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)(القصص: من الآية38) وكان
يستهزئ بموسى عليه السلام وبما جاء به من الآيات ويتحداه ، ويقول له
صراحةً وجهاً لوجه : ) إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً)(الاسراء:
من الآية101) ويفتخر على موسى وعلى قومه فيقول : )وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي
قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ
الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ *فَلَوْلا أُلْقِيَ
عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ
مُقْتَرِنِينَ) (الزخرف: 51- 53 )
فماذا كانت النتيجة ؟ أن كفر به أخص الناس بكيده وهم السحره ،
فإن السحرة لما جمعوا كل من عندهم من السحر ، وجاءوا لمقابلة موسى عليه
السلام حيث إن موسى عليه السلام أتى بآية تشبه السحر ، ولكنها ليست بسحر ،
بل آية من آيات الله عز وجل ، وهي أن يضع العصى التي معه على الأرض فتنقلب
حية تسعى ، وجمع السحرة كلهم في مكان حدد )فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ
مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ
وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً) (طـه:58) يعني مكاناً مستوياً منبسطاً حتى
يشاهد الناس ما يشاهدون من السحر وأعمال السحرة . فقال لهم : )قَالَ
مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً) (طـه:59)
ويوم الزينة هو يوم عيدهم ، وهو يوم تكثر فيه الجموع لتهنئة بعضهم بعضاً ،
واجتمعوا في الموعد المحدد والمكان المعين ، وحشر الناس ضحى في رابعة
النهار ن وألقى السحرة ما بأيديهم من الحبال والعصى ، وخيل إلى الحاضرين من
سحرهم أنها تسعى ، فأوجس في نفسه خيفة موسى ، لأنه شاهد أمراً عظيماً
وكيداً كبيراً ، فأوحى الله عز وجل إليه أن يلقي عصاه ، فإذا هي تلقف ما
يأفكون ، وحينئذٍ علم السحرة أن موسى صادق وليس بساحر ، لأنه لو كان ساحراً
ما استطاع أن يغلبهم بسحره، فآمن السحرة بموسى عليه السلام ، وكفروا
بفرعون الطاغية ، وقالوا : )قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
(الشعراء:47) ووقفوا في وجه فرعون وتحدوه وانقلبوا عليه ، وفي النهاية أغرق
الله فرعون في الماء الذي كان يفتخر به بالأمس .
يتبع