سمعت الأم اضطرابا في بطنها ، تلاه ضرب مؤلم ..
ذهبت إلى الطبيب ، فزف لها
البشرى ، قال : يا بشرى هذا غلام
لم تسع الأرضُ الأمَ من الفرح ، سجدت لله شاكرة
، حمدته بلسانها وجوارحها ،
رفعت يديها إليه ناجته قائلة : ربُّ هب لي من
ذريتي قرة عين .
بدأ سعد بالمعافسة في بطن أمه . يتحرك هنا وهناك بكل فرح
لأنه خارج إلى حياةٍ رحبة ،!
أما أمُّه . فعَينها امتزجت بدمع الألم
والفرح
ألم الحمل وأمل الذرية ، فرح الأولاد
والدمع البارد لأنه خيل إليها
نجاحه فلا تراه إلا رجلا يضرب به المثل .. سندا للظهر.
جاء اليوم وفرِح
الوالدُ بالمولود :
خرج يأخذ نفسا عميقا
وبدا مسيرُ الطريق مخالفا لما عوّلت
عليه أمه ، حلُمت أن يصبح رجلا صالحا فأمسى طالحا ،
يرى نورَ الطريق فيحيد
عنه وظلمةَ الشِّعب فيأوي إليه . .
فما حال سعد ؟!!
سعد صاحب العضلات
المفتولة والنظارة السوداء ، يركب رأسَه ويخالف الناس
يسمع نداء الأذان فلا
يلبي ، أعجبته نفسه ،
وغرته الأماني ، وظن أن سعادته فيما يفعل .
ضيع نفسه
ووقته ،كأن وجوده في الدنيا ذنب قابله بعصيان وتمرُّد !
يفتح عينه من سبات غميق
يتعاجز عن القيام ، أثقلته الذنوب ، على وجهه ضوء أسود فحَدَقُه مظلم،
تثائب
تثاؤب من بال الشيطان في أذنه ونهض قائما
وبينما هو يمشي في حَمأة اللهو
أصابته حُمَّى شديدة فطرحته للفراش،كان جسده يمانع الأمراض
فأصبح مرتَعا
للوباء ، ذهب إلى الطبيب فحذّره وأنذره من شرب المسكرات
ومع كرِّ الليالي
وفرِّها وإقبال الأيام وإدبارها حان موعد الرحيل وآذنت النفس بالإياب ، وأُخذت
الوديعةُ المستودعة .
اعترى سعدا ضعفٌ في جسده .. تنمّلت أطرافه خارت قواه ،
نادى : أماه ..
لبّت النداءَ أمُه تهرول وتقول : ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر
؟
ضمته إلى صدرها ، نضحت وجهَه بالماء ، إلا أن " سعدا" يصارع شيئا لا يشبه
المرض ..
.. نادته : سعد سعد ، وبصره شاخص إلى السماء كأنه يرتقب ضيفا
مفزعا
وبعد شدة هَوْلٍ .. جاءه الضيف ذو الوجه الأسود .. مد يده إلى جوف سعد
كأنه وجد ما فقد ..
لقد نزع الروح نزعا شديدا كأنه اقتلع جسده كله ، وسعد
يصارخ ولا منجى من الموت ،
قد حان ما كنت تحذره يا سعد .
أراد سعد الكلام
ولكن لم يسطع ، كان يريد القول :"رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت"
ما زال
سعد يقاتل الموت ولكن لا طاقة له بملك الموت !!
لم يكن النزع يسيرا، لقد
هربت روحُه فلم تدع عِرقا ولا عَصَبا إلا اختبأت خلفه ..
وهذا الملك غارق في
نزعه ، فالعذاب عسير ولا طاقة للجبال الرواسي به !!'.
وذهب ملك الموت متأبطا
شرا ، تاركا جسده المسجى بالهول والهلع . ..
بقي سعد جثة هامدة لا تطيق حراكا بل
هي أشد ما تكون في سكونها ..
ضربت الأم صدرها وقالت : بنيَّ سعد وقتك
الأواقي ، أجبني ، ما ذا أصابك ؟
فلمَّا لَمْ يجب عرفت أن ليس ثمة مرض ..
إنه الموت الذي لا يرده ملك مقرب ولا نبي مرسل
كان سعد تاركا للصلاة مجانبا
للطاعة بعيدا عن الخير ، فتحرجوا في الصلاة عليه ،
ولم يجدوا بُدا من أن
يلقوه في المقبرة .
حملوه على أكتافهم وهو يسمع قرع نعالهم ويقول : إلى أين ؟
أين تذهبون بي ؟
أنا سعد ابنكم وقريبكم ، دعوني أصل لله ركعات لعله يغفر لي
خطيئتي
وشتمت فلانا أريد المغفرة منهم ،
وقد استعرت متاعا فجحدته
...
ولكن لا يسمع نداءَه إلا ربُه ، ولا حياة لمن يناديهم
!
رأى سورَ
المقبرة كأنه قيد في العنق يقطع الوريد ويشد الوثاق !! !!
اقترب من المقابر
كأنها غابة موحشة
الشجر محترق ، وكل شيء في هذا المكان خَرِب خَرِب ، فكل
ما تراه يدعو إلى الموت ،
لا حياة بعد تلك الحياة .
لقد بدّلوا اسمه ،
فكان "سعدا" في الماضي ، أما الآن فهم
يقولون :ضَعُوا "الجنازة" هنا
.
يالله !! ما أكثر من خُدع ببريق الدنيا ثم لم تمهله حتى رُمِي في حومة
الردى ..
أنزلوا رأسه أولا إلى هذه الحفرة الضيقة فرأى ظلاما وقَعرا مُخيفا
أراد أن يمسك بيد من يدفنه
ليقول ... دعني وشأني
ولكن الموت ليس
فيه رحمة ولا توسل إلا الله !
استقر سعد في ظلمة القبر وهو يرى بعينه هيلان
التراب عليه ، ويقول ما ذا فعلتُ بهم ؟
طمَّ الثرى جسدَه فلم يعد يرى شيئا ،
التقمه القبر وهو مُليم ، فسعد مُحاط بالضنك والكدر ولا رادَّ لما أراد الله
.
ثم وضعوا لبِنة عليه أثقلت جسده ثم أهالوا التراب أخرى وأخرى فلم يُطق
التفاتا
واستسلم لما هو كائن عليه ..
بقي وحيدا عاريا ، فارغا من كل
شيء ،، فوقه تراب ، يمينه تراب ،
وعن شماله التراب ، وتحته التراب ، فراشه
التراب ولِحافه .
ما هذا المصير ؟ أين فراشي الناعم ؟ أين الحرير ؟ أين
الهناء ورغد العيش ؟ أين الطعام ؟
أين فلان وفلانة ، في كل ليلة لي
معهمجولة، نقطِّع الوقت بالحديث الماتع ،
والغناء ، والكلام ؟
لمَ تركوني
في وقت الحاجة ؟!!
المكان شديد الإظلام لا أرى إلا سوادا في سواد
؟؟
ثم يجيئه ملكان قبيحا المنظر يقولان له : قم يا سعد ..
فيقوم أفزع
قيام، وجِلا خائفا يقول لهما : من أنتما ؟
فيقولان نحن عملك السيء؟
فيقول :
ماذا تريدون ؟
فيقالان : من ربك؟
فيقول : هاه هاه لا أدري !!
يسائل
سعد نفسه ما لي لا أجيب ، فأنا أعلم من ربي ومن خلقني ورزقني ، ..
ثم يقولان :
من نبيك ؟ ما دينك ؟
ويقول : هاه لا أدري !!
فيضربانه على رأسه بمِطرقة يسمعه
كل شيء قريب منه إلا الثقلين ، ولو سمعوه لصُعقوا .
ثم يرى منزله من النار ،
ويرى غُرفته في الجنة لو كان صالحا ، فيزداد حسرة على حسرة وحرقة
على حرقة
ويموت في كل حين أسفا وحزنا .:
ثم يضمه القبر ضمة تختلف أضلاعه فيها .. فلا
يبقى عظم على عظم ..
ويتمنى سعد أن لا تقوم الساعة لأنه يعلم أن ما يأتيه أشد
فزعا وأعظم عذابا من هذا
فيقول : رب لا تقم الساعة ، رب لا تقم الساعة
...
وهذه ليلة سعد في ظلمة القبر البهيم .. وهناك من تطيب نفسه إلى هذا
المصير ليس بقلبه ،
ولكن حاله تخبرك ، وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان
..
:]: