ونحن في هذا الشهر العظيم، تلوح لنا إجابة الرحمن لسيد ولد عدنان في هذه الليلة التي نحن مقبلون عليها الآن ولا غرو إذ سماها سلفنا الصالح ليلة الإجابة، فقد أجيب فيها رسولكم الكريم من الله مرتين: مرة في مكة المكرمة ومرة في المدينة المنورة.
أما المرة الأولى فعندما قال له أهل مكة: سل ربك أن يُظهر لنا آية نراها بأعيننا حتى نؤمن بما جئت به فتضرع إلى الله، وفوّض أمره كله إلى الله، فلما كانت ليلة النصف من شعبان نزل عليه أمين الوحي جبريل عليه السلام وقال له: قل لهم يا محمد لو اجتمعوا هذه الليلة يروا آية فأعلن ذلك على الملأ للمشركين ودعاهم للاجتماع عند البيت الحرام بعد غروب الشمس وسطوع القمر واجتمعوا عند الصفا وقد طلع القمر، والقمر كما تعلمون يكون في هذه الليلة بدراً كاملاً قد بلغ التمام لأنها ليلة الرابع عشر أو الخامس عشر على بعض الأقوال
وعندما اجتمعوا قالوا: يا محمد أين الآية فأشار إلى القمر بإصبعه الشريف فانشق نصفين، نصف على جبل الصفا ونصف على جبل المروة فلما رأوا الآية بهتوا من شدة ما رأوا ولم يصدقوا أنفسهم فأغمضوا أعينهم ثم فتحوها فوجدوا الأمر كما هو عليه القمر وقد انشق نصفين ظاهرين لكل ذي عينين نصف على الصفا ونصف على المروة، فذهبوا إلى مكة ورجعوا مرة أخرى وهم يقولون ما هذا إلا سحر مستمر. فلما عادوا وجدوا الأمر على ما هو عليه
قال العقلاء منهم: إن كان الأمر كما يقول فانتظروا حتى يأتي أهل الآفاق، واسألوهم إن كانوا قد رأوا القمر منشقاً في جهتهم فتلك والله آية وإن كانوا لم يروا القمر منشقاً ولم يظهر إلا في مكة فهذا هو السحر بعينه ولبثوا قليلاً وجاء الأفاقون فسألوهم فصدّقوا وقالوا لقد رأيناه في تلك الليلة منشقاً وفي ذلك يقول أحكم الحاكمين {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ{1} وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ{2} وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ{3} (1- 3القمر)
هذه كانت إجابة الله لحَبيب الله عندما تحدّى هؤلاء القوم ومع ذلك فإنهم لم تسبق لهم من الله العناية ولم تكتب لهم في سابقة الحسنى الأزلية الهداية، بل ما زادوا إلا عناداً وإصراراً وخيلاء واستكباراً وقالوا إن هذا إلا سحر يؤثر يا محمد، لقد شيبتنا بسحرك.
أما الآية الثانية من آيات الله لرسول الله والتي تمت في هذه الليلة المباركة فقد كانت بعد هجرته للمدينة المنورة صلوات الله وسلامه عليه، فعندما فُرضت عليه الصلاة وهو في مكة كان يتحرى أن يصلي وأمامه البيت الحرام في اتجاه بيت المقدس فيستقبل القبلتين في وقت واحد يقف وأمامه البيت الحرام في الاتجاه الذي يظهر خلف البيت فيه بيت المقدس، فلما هاجر للمدينة المنورة وتعذر عليه أن يجمع بين القبلتين، لأن الشام في اتجاه ومكة في اتجاه آخر ولابد أن يتجه لقبلة واحدة منهما فقط فاتجه إلى بيت المقدس قبلة الأنبياء ولكنه كان في قلبه يحنّ إلى قبلة الخليل عليه السلام
وأخذ يتضرع إلى الله ويقلب قلبه بين يدي الله ويوجه لسانه مستمطراً رحمة الله يرجو من الله أن يوجهه إلى قبلة أبيه الخليل، فلما كان هذا اليوم وهو ما يوافق اليوم الذي نحن فيه الآن، وكان في صلاة الظهر وكان يصلي في بني سالم بن عوف لانشغاله في بعض أمورهم، وعندما حان وقت الصلاة صلى بهم وكان صلى الله عليه وسلم أينما أدركته الصلاة يصلي
حتى أنه كان في سفر وحان الوقت وليس معه ماء فتيمم وأمر بالآذان للصلاة فقال بعض الحاضرين وكان عالماً بالطريق: يا رسول الله بيننا وبين الماء ميل واحد فانتظر حتى نصل إلى الماء ثم نتوضأ ونصلي، فقال صلى الله عليه وسلم معلماً له ولنا: {وما يدريك لعلّني لا أبلغه} أي لعلني لا أصل إليه وهذا تعليم لنا جماعة المؤمنين. فإذا كنت في مصلحة أو في عمل وأذن الظهر ماذا نعمل؟ إن أغلبنا يقول انتظر حتى أرجع إلى المنزل واخلع ثيابي ثم أتوضأ وأصلي لكن رسول الله يقول: {أينما أدركتكم الصلاة فصلوا}{1}.
إذا أدركتك الصلاة في العمل فصلي في العمل وإذا أدركتك في الطريق فصلّ في الطريق فقد جعل الله لكم الأرض مسجداً وتربتها طهورا، فإذا أدركتك حتى ولو كنت في السوق فصل لله فإن ذاكر الله في السوق كالشجرة الخضراء في وسط حديقة جافة يابسة.
فلما كان في صلاة الظهر في بني سالم وصلى الركعتين الأوليتين متجهاً إلى بيت المقدس وقام ليصلي الركعة الثالثة فنزل عليه أمر الله {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} البقرة144
فغير وجهته إلى البيت الحرام وغير أصحابه خلفه وجهتهم إلى البيت الحرام وهذه هي الصلاة الوحيدة في الإسلام التي صلاها المسلمون نصفها إلى بيت المقدس ونصفها إلى البيت الحرام إجابة لدعوة النبي عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
وهذا ما حدا بالعلماء العاملين والأئمة المهتدين أن يحيوا هذه الليلة بالطاعة والدعاء والإلحاح في الدعاء والتوبة الصادقة لأنهم تفرسوا فيها الإجابة من هاتين الحادثتين ومن الحادثة الأخرى التي روتها السيدة عائشة رضي الله عنها، قالت: {كانت ليلة النصف من شعبان ليلتي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي، فلما كان في جوف الليل، فقدته فأخذني ما يأخذ النساء من الغيرة، فتلفعت بمرطي، فطلبته في حجر نسائه، فلم أجده فانصرفت إلى حجرتي، فإذا أنا به كالثوب الساقط وهو يقول في سجوده: سجد لك خيالي وسوادي وآمن بك فؤادي فهذه يدي وما جنيت بها على نفسي يا عظيم يرجى لكل عظيم يا عظيم اغفر الذنب العظيم سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره، ثم رفع رأسه، ثم عاد ساجدا، فقال: أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ بك منك أنت كما أثنيت على نفسك، أقول كما قال أخي داود أعفر وجهي في التراب لسيدي وحق له أن يسجد، ثم رفع رأسه فقال: اللهم ارزقني قلبا تقيا، من الشر نقيا، لا جافيا ولا شقيا، ثم انصرف فدخل معي في الخميلة ولي نفس عال، فقال ما هذا النفس يا حميراء؟ فأخبرته، فطفق يمسح بيديه على ركبتي ويقول: ويح هاتين الركبتين ما لقيتا في هذه الليلة، هذه ليلة النصف من شعبان ينزل الله فيها إلى السماء الدنيا، فيغفر لعباده إلا المشرك والمشاحن}{2}
ولذلك علينا جماعة المسلمين أن نغتنم هذه الفرصة لنتوب إلى الله مما ارتكبناه ونتضرع إليه أن يمحو خطايانا وأن يبدل سيئاتنا بحسنات، ثم ندعوه بخير الدعاء وهو التوفيق للأعمال الصالحة حتى الممات، فاستكثروا من الباقيات الصالحات في هذه الليلة وناجوا ربكم بكلامه وتملقوا إليه بإنعامه وأقبلوا عليه بقلوبكم وافعلوا من أنفسكم الخير لعله ينظر إلينا نظرة حب وحنان فيبدل ما نحن فيه فهو على كل شئ قدير وبالإجابة جدير.
قال صلى الله عليه وسلم: {يَسِحُّ اللَّهُ الْخَيْرَ فِي أَرْبَعِ لَيَالٍ سَحًّا: لَيْلَةَ الأَضْحَى وَالْفِطْرِ، وَلَيْلَةَ النصْفِ مِنْ شَعْبَانَ يُنْسَخُ فِيهَا الآْجَالُ وَالأَرْزَاقُ وَيُكْتَبُ فِيهَا الْحَجُّ، وَفِي لَيْلَةِ عَرَفَةَ إِلى الأَذَانِ}{3}
وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {خَمْسُ لَيَالٍ لاَ تُرَدُّ فِيهِنَّ الدَّعْوَةُ: أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةُ النصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، وَلَيْلَةُ الْفِطْرِ، وَلَيْلَةُ النَّحْرِ}{4}
وقال صلى الله عليه وسلم: {إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا. فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا. فَيَقُولُ: أَلاَ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ أَلاَ مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ أَلاَ مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ أَلاَ كَذَا أَلاَ كَذَا، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ أو قاطع رحم أو عاق لوالديه أو مصر على معصية أو شارب خمر أو زان}{5}
{1} عن عبد الله بن مغفل ي الفتح الكبير وجامع الأحاديث {2} رواه أبو داود والترمذي والبيهقى عن السيدة عائشة رضى الله عنها {3} الدَّيلمي والبيهقى عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {4} ابن عساكر عن أَبي أُمَامَةَ رضيَ اللَّهُ عنهُ {5} عن سيدنا علي رضي الله عنه رواه ابن ماجة.