برغم أن سنة الزواج الأولى يفترض أن تكون من أجمل سنوات عمر الزوجين, فإنها تحمل أحياناً بذور العواصف التي تطيح بهذا الزواج في سنته الأولى
أيضا, فكيف نكتشف هذه البذور وننحيها كلما أمكن?
إذا قلنا مشكلات السنة الأولى من الزواج فالأمر عادي, وإذا وصفناها بأنها كوارث فلأنها فعلا تهدد العش الهادئ, السعيد والجديد, واتضح أن شهر
العسل والسنة الأولى قد تكون عاصفة للغاية وربما تؤدي إلى الانفصال أو الطلاق. وإذا كنت هنا أسوق هذه التجربة من العيادة النفسية فأنا لا أقصد إطلاقا تخويف الأزواج والزوجات, وإنما أذكرها لرصد موقف حياتي يؤدي إلى اضطراب مزاجي, فلقد كانت تلك العروس وبعد أسبوع واحد من الزفاف
(مكتئبة) نعم, مكتئبة ومنزعجة والسبب أنها فوجئت بمسئولية كاملة, بيت وزوج, وجدت نفسها وحيدة لا تعتمد على أمها وأمامها حاضر ومستقبل يجب أن تحسب له ألف حساب, وعلى الرغم من أن الزوجين قد يكونان في (حالة حب) أو أنهما قد تزوجا (زواجاً تقليديا), فإن الأمر في نهايته هو أقوى
رابطة تجمع بين غريبين داخل أقدم مؤسسة اجتماعية عرفها التاريخ, ومع كل الحب والرحمة والمودة والحاجة العاطفية والحاجة إلى بناء أسرة مستقلة فإن المشكلة الحقّة تكمن في أن كلا من الزوجين مهما كان حجم الرابطة التي بينهما يأتي من بيئة مختلفة, وربما من ثقافة اجتماعية مختلفة, وحتما فإنهما مختلفان في الطباع والذكاء والاهتمامات ودرجة الانتماء إلى الأهل أو إلى الطبقة, وبالتالي فلكل منهما عاداته وسلوكياته وقدراته.
حزمة من التوقعات
يقول العالم ديفيس اختصاصي تطوير الطفل والأسرة بجامعة مينوستا إن الزواج عملية كاملة تحوى في إطارها النضج والنمو المستمر, التكيف والتأقلم وكذلك التغيير. كل طرف يأتي إلى عش الزوجية بحزمة من التوقعات, كل يتوقع من الآخر شيئا وأشياء, وكل يتوقع من نفسه أيضا ما يمكن أن يفعله في
حياته الجديدة.
يجب ألا ننسى كذلك توقعات الزوجين من الزواج نفسه وهنا - مبكراً أو لاحقاً - يتوقع الزوجان في السنة الأولى مواجهة وتصادماً في توقعاتهما المتعارضة.
أحياناً ما تكون تلك التوقعات غير واقعية, بمعنى أن كل طرف يتوقع من الزواج الكثير وغالباً القليل الذي لا يمكن أن يوفره الطرف الآخر تحت أيّ مسمّى. بعض هذه التوقعات تكاد تتحدد في الدعم المعنوي, الرفقة والشراكة, الدعم المادي أو المساعدة والمساهمة الواضحة. ولتحقيق كل هذه التوقعات أو
بعضها يكون الأمر مرهقاً للغاية, أحياناً.
وخلافات السنة الأولى تحديداً وما يليها من سنوات بشكل عام تتمركز حول ذلك الاختلاف بين التوقع وما هو متاح, بين المتوقع وأداء كل من الزوجين كلٌ قدر طاقاته, وهذا الفارق يؤدي بما لا يدع مجالاً للشك إلى انزعاج, إحباط, ضيق, وإحساس بالتوهم وخداع الأشياء, وعندما لا تتحقق توقعات الزوجين, ربما أصيبا بالتعاسة والاكتئاب. من ناحية أخرى, فقد يهمل أحدهما أو كل منهما الطرف الآخر فيغفل أو يتغافل عن إخبار الطرف الآخر بمكنونات
نفسه, فلا يبوح بما يكتم عادة فلا يقال, وتزيد مساحة الغموض بين الزوجين مما يؤدي إلى المشكلات وإلى الكوارث أحياناً.
هذه التوقعات اللاواقعية تسبب مشكلات جمّة وصراعات قوية تهدد العلاقة الزوجية منها على سبيل المثال لا الحصر:
- خلاف تافه حول استعمال معجون الأسنان وطريقة ضغط الأنبوبة?!
- شجار حول مَن الذي يجب أن يطفئ أنوار البيت ليلاً قبل النوم.
- شجارات حول الدخل المادي وطرق الصرف.
- خلاف حول تغييرات في القنوات الفضائية ومحطات التلفزيون.
الخروج من القفص الزجاجي
في العلاقة الزوجية هناك أفكار لابد أن يتبناها الطرفان يسعيان فيها إلى تجنب جرح الطرف الآخر أو إهماله أو التسبب في ضيقه, أو في حالة سوء فهم وتفاهم وهنا يراعي الطرفان:
- لا تركز على الكمال, ولا على ما يجب أن تكون عليه الأشياء, ولكن ركز على المتاح, أقصى ما يمكن الإتيان به وأدائه في إطار العلاقة الزوجية.
- تجنب التوقعات الزائدة عن الحدّ من شريك/شريكتك, التوقعات الخيالية قد تضع من أمامك في صندوق زجاجي مغلق, تحبسه في إطار توقعات وغير ذلك يصبح بغير ذي أهمية, وأي مجهود بعد ذلك وغير ذلك يصبح قبض الريح رغم كل التعب والمحاولة وشرفها وكدّها وإخلاصها.
- فلندرك أن بعض التوقعات في الأمور الزوجية شيء مهم للغاية وصحّي لزواج صحيح, شارك زوجك/زوجتك في رسم تلك التوقعات بكثير من الواقع
فلتتفقا أو تختلفا, لكن حاولا الوصول إلى صيغة مقبولة لكليكما, صيغة لا تغمط حق أيّكما وتضيف إلى العلاقة الإنسانية وتثري العلاقة الزوجية إلى أقصى حد.
- توقع بعض الخلاف والاختلاف في الرأي, تقبل هذا, فالعلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة, الزوج والزوجة تسمح بالاختلاف وتسمح بالتنوع وتسمح بالتناغم والتلاقي والتوحد.
- حاول أن تبوح بذات صدرك لزوجك, أن تنفس عن انفعالاتك, أن تخرج طاقة فرحك أو حزنك, وحاولا - قدر الإمكان - إزاحة سوء الفهم والبحث عن
الإيجابيات والسعي إلى الترويح. التواصل الحرّ يبعث بالدفء في أوصال الحب, والهواء المنعش إذا ما دخل عن طريق الحوار البنّاء يضفي بهجة ورونقا على الغرف المغلقة.
في السنة الأولى من الزواج تحديداً حاول قدر إمكانك التعبير للطرف الآخر عن توقعاتك, وليكن هذا التعبير مشاركة بينكما, اكتب ثلاثة توقعات (انتظرتها من شريكك أو من الزواج ككل), ولتكن هذه التوقعات قد تحققت, مثل: (توقعت حينما تزوجتك أن تضمن لي الصحبة وتكون خليلي تصاحبني في وقت الفراغ, وأن أشاركك الأنشطة المختلفة), اجلسا معا وركّزا على ما تحقق وأبدآ بما لا يتحقق قليلاً قليلاً.
والسؤال الآن: هل هناك شكل للعلاقة الناجحة بين الزوجين?
المنظومة الذاتية
بادئ ذي بدء, ليس هناك زواج مثل الآخر, يؤكد البحث العلمي من جامعة مسيسيبي أن هناك خصائص لكل من الزوجين في إطار الزواج الصحي, فكل شخص في إطار تلك العلاقة:
- معطاء, يعطى للآخرين.
- قوي نفسياً, ثابت الأركان وغير مهتز.
- مستقل ذهنيا له أهدافه, قيمه وتطلعاته.
- مخلص للعلاقة الزوجية بكل الصور.
- يتواصل بشكل جيد, يشارك الآخر بأفكاره وأحاسيسه دون ابتزاز أو محاولة للتأثير المغرض (تواصل إيجابي يتحقق من خلال الآخرين).
- يستجيب للآخرين, يحترم اختلافاتهم.
- يضع نفسه مكان الآخرين, ويعذرهم ويحسّ بهم.
- يكون مستعداً لكي يكون مرناً ومن ثم يكون لديه الاستعداد للنضج والتطور والتغير.
- يمتلك حسّاً صحياً صحيحاً في العلاقة الحميمية, فالمعاشرة الزوجية تلعب دوراً لا يستهان به لتحسين العلاقة الزوجية ككل.
العلاقة الصحية تستمر في نضجها وتغيراتها, ومن ثمّ فإن صيانة زواج صحي وقوي يوجب على الطرفين أن يستمرا في عملية المصارحة والمكاشفة والمواجهة دون تجريح, أن يخلقا جواً من الثقة المتبادلة والشعور الجميل بالآخر, أن يطوّرا من مهاراتهما الخاصة والاجتماعية, الانتباه وبذل المجهود في اتجاه تطوير النفس والزواج.
إذا نظرنا للزواج في سنته الأولى في إطار فهمنا لنظرية (النظم System Theory) التي تبناها عدد من علماء النفس وأطبائها منهم سوليفان عام 1953
, والذي أكّد ضرورة فهم الأشخاص في إطار بيئتهم الاجتماعية, بمعنى أن الزوج يأتي من بيئة وثقافة لها أصولها الثابتة, وكذلك الزوجة التي تتحدر من طبقة معينة لها اتجاهاتها وفلسفتها الحياتية المحددة, ومن ثم فإن للدائرتين أن تتفاعلا ولا نقول أن تتحدا أو تتطابقا لأن في هذا خطرا من ذوبان أحدهما في الآخر إما لضعف في شخصيته أو لظروف قاهرة تتعلق بسلطة الآخر المادية والاجتماعية, أدى هذا بسوليفان إلى نظرية أخرى هي (نظرة الانفعال المتبادل) حيث وضّح الحاجات المكملة لكل من الزوجين, وضرورة التعبير عنها للطرف الآخر بفصاحة وبلاغة ودون خوف أو حرج, وهنا طوّر سوليفان ما يمكن الاصطلاح عليه بـ(المنظومة الذاتية) لكل شخص على حدة, الزوج بمفرده, والزوجة بمفردها. وهنا تبرز أهم المشاكل التي تنبع من تدخل الأهل وتعدّ هذه المشكلة هي مصيبة المصائب في حال الأسر في وطننا العربي, وبالطبع لا نعمم ولا نتصور أن كل (حماة) متدخلة مزعجة
مهدمة لبيت ابنها أو ابنتها ولا هي كما تصوّرها بعض الأفلام كارتونية مضحكة مؤلمة لأقصى الحدود. لكن عودة إلى (المنظومة الذاتية) ووجوب استقلالها عن كل ما عداها نراها في وظيفتها الأساسية ذات ديناميات وخصائص تحتفظ داخلها باستقرار داخلي عميق يجنب القلق والاكتئاب, الشك والوساوس, وبالتالي الكوارث.
الجزء والكل
ثم جاء العالم فون برتلانفي Von Bertalanffy في أواخر الأربعينيات ووضع شكلاً نهائياً لنظرية النظم طوّر فيه فهم الإنسان وشمل بهذا الفهم الأبعاد الانفعالية, الاجتماعية, الاقتصادية والثقافية للحياة ككل. ويمكننا هنا والآن فهم هذه النظرية من منظور تفاعل مكوّناتها التي ذكرناها سالفا مع بعضها
البعض وعلى أن نرى طبقاً لنظرية وفهم الجشطالت Gestalt أن الكل يعني الكل, ولا يعني الكل مجموع الأجزاء, ومن ثم فإن الزوج في تعامله مع الزوجة لا يتعامل معها بجزء ثقافي وجزء طبقي, وهكذا هي لا تتعامل معه بجزء أنثوي وجزء بيئي لكنهما معا يتعاملان, كل منهما مع الآخر ككل مع الكل, وهنا يحدث الصدام والشجار والعراك خاصة في السنة الأولى, حيث يختبر كل طرف الطرف الآخر, يسبر غوره ويمتحنه ويوجهه ويتوجه به, يحاول إرشاده ويحاول التطبع به, وربما يحاول طبعه بطباعه وخصاله إمّا ليناً ونعومة وإما قسراً وقهراً, وهنا تحدث الكارثة.
ويبدأ الزوجان في تبادل الاتهامات, وربما في التجريح والتهويل والتكبير, وتبدأ نقاط الضعف في التضخم, وتبدأ العيوب النفسية مثل الوهن النفسي, فقدان الثقة بالنفس, الإحساس بعدم الأمان والقلق الاجتماعي في الظهور, وربما في الاستمرار والتقاط عيوب أخرى وكأنها كرة الثلج المتدحرجة تلتقط
في تدحرجها من قمة الجبل كل ما يمر أمامها وعبرها فتكبر وتقاوم الشمس فلا تنصهر وتمثل العقبة الكئود.
وأكبر مشاكل السنة الأولى تكمن في أن أحد الزوجين تكون لديه الحاسّة الطبيعية للعطاء وللحب وللتآلف بينما الطرف الآخر يفتقد مفاتيح التقاط كل هذا فيبدو منعزلاً منصرفاً فيعتقد الطرف الأول أنه مرفوض وأن عطاءه غير مقبول فتتعقد الأمور أكثر وأكثر.
إذا نظرنا إلى الشكل التالي:
الزوج + الزوجة = الزوج و الزوجة
(نظام جديد)
ويعني هذا الشكل أن الزواج يضم كلا من الزوجين, ولهما استقلالهما الكامل, بمعنى أن الزواج لا يلغي شخصية الزوج أو الزوجة بل يستخدمها ويطوّرها
لخلق نظام ومؤسسة جديدة تتمتع بالصحة النفسية والعافية التي تضمن الاستمرار. فإذا اضطرب أحدهما أثّر في الآخر, وإذا اكتأب أحدهما تأثّر الآخر, وهكذا كان من الصحي والصحيح الانتباه إلى حال كل من الزوجــين علـى حـدة, والزواج ككيان على حدة لضمان تــفادي عواصـف السـنة الأولى وكوارثها!