بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكن أخواتي في الله
هذه الرسالة مرسلة لكم من أخوكم خلدون
الحمد لله الذي خلقني وأنعم علي بحياتي وهو قادر على أن يحيي عظامي وهي رميم, والحمد لله الذي منحني سمعا وبصرا وفؤادا لأتفكر في ملكوته, والحمد لله الذي وهبني عقلا هداني به إلى الحق وقلبا ثبتني به على الإسلام, والحمد لله الذي جعل لي لسانا أذكره به وأصلي وأسلم به على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
نشأتي
من الله علي بأن أنبتني نباتا حسنا, فقد سخر لي أمي طيب ثراها لتقوم على تنشئتي بأفضل ما تستطيع. وعملت على توجيهي نحو المطالعة, وأحاطتني بالكتب العلمية القيمة. بعد أن أتممت المرحلة الإعدادية سجلتني أمي في دورات للغة الانجليزية ودورات للإلكترونيات ودورات في البرمجة بلغة QBasic والتي كان لها أثر حاسم في حياتي لاحقا. نلت الشهادة الثانوية صيف 1994 بتفوق ولم أتوجه إلى كلية الطب رغم أن معدلي يؤهلني لذلك, بل انتسبت إلى كلية الهندسة الإلكترونية نظرا لتعلقي بلإلكترونيات والحاسوب.
الحادث
في أواخر الصيف يوم الأربعاء الموافق لـ 25 ربيع الأول 1415 والموافق لـ 31 من آب\أغسطس 1994 وبينما كنت أسبح في بحر ساحل طرطوس، اعتليت قاربا كان يقترب من الشاطئ دون أن أنتبه. وحوالي 7:30 مساء، قفزت إلى الماء إلا أنه كان ضحلا للغاية فارتطم رأسي بقعر البحر. وفقدت وعيي إثرها لبرهة، وعندما أفقت وجدتهم يحملونني من ذراعيّ ورجليّ باحثين عن عربة ليسعفوني إلى مستشفى بسرعة. لم أستطع الكلام. أقلني أبي بسيارته إلى المستشفى. فقدت وعيي مجددا في السيارة وبدأت بالاختناق وأصبحت مزرقا، حينها قام أحدهم بالنفخ في فمي مما مكنني من التنفس حتى وصلنا إلى مستشفى طرطوس الوطني. وفي المستشفى تقرر أنه يتوجب نقلي إلى دمشق.
في دمشق أظهرت الصور كسرا في الناتئ السني للفقرة الرقبية الثانية، مما تسبب بأذية مستديمة في النخاع الشوكي. ولأن الإصابة كانت في أعلى العمود الرقبي لم أفقد فقط قدرتي على تحريك أطرافي الأربعة ولكن أيضا قدرتي على التنفس بسبب شلل الحجاب الحاجز فأصبحت معتمدا على المنفسة بالإضافة إلى فقدان الحس تحت مستوى رقبتي. بقيت في غرف العناية المشددة مرتبطا بالمنفسات لأكثر من 7 أشهر متنقلا بين أربع مستشفيات. وأخيرا قرر أبي استيراد منفسة منزلية، فانتقلت إلى المنزل مع المنفسة. وبعد خمس سنين استوردنا منفسة أخرى بعد تعطل الأولى.
أما وقد شاء ربي أن يبتليني فهذه حال الحياة الدنيا, أرادها الله دار ابتلاء, قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} البقرة (214), أما دار البقاء فهي الحياة الآخرة فإما نعيم مقيم أو عذاب سرمدي. وأما من يبتلى فيصبر ويحتسب فقد فاز بالأجر العظيم, وأما من يسخط فقد خسر الدنيا والآخرة.
عائلتي
كان وقع الحادث على عائلتي في غاية القسوة. خاصة على أمي، والتي سرعان ما أصيبت بالسرطان وتوفيت في 17 ذو الحجة 1417 الموافق لـ 24 نيسان 1997. بذلت رحمها الله أقصى ما تستطيع وهي تحاول أن تجد لي علاجا. ولم تسمع بطبيب أو شيخ أو مدع إلا وأتت به أو أخذتني إليه ولم أسلم حتى من المشعوذين والرهبان غفر الله لها. وقد أولتني منذ نعومة أظفاري عناية فائقة خاصة في مجال العلم. حصلت رحمها الله على شهادة ثانوية ودرست فرع الرياضيات سنة بسنة بعد أن أنجبتني وأختَيّ وعينت معيدة في الجامعة لتفوقها، أسكنها الله فسيح جنانه.
لم يدخر أبي جهدا في محاولته وأمي لعلاجي، وقد بذل الغالي والنفيس، وقد سافر إلى روسيا وجلب أفضل أساتذة الطب الروس الذين أجروا لي أحدث عملية لتطعيم النخاع الشوكي. وهو مهندس معماري تخرج من سراييفو في يوغسلافيا سابقا. تزوج أبي نادية الحليبي وأنجب منها إخوتي محمد وهدى وعبد المجيد وأسعد. وما يزال أبي إضافة إلى شقيقتي خلود القائم الأول على رعايتي، وفقه الله وأمد في عمره.
كان للحادث بالغ الأثر على شقيقتي، وخاصة بعد وفاة أمي رحمها الله. والتي سبقت امتحانات الشهادة الثانوية لأختي ميسون بقليل. ورغم ذلك تمكنت من النجاح ودرست في المعهد التجاري وتخرجت بعد سنتين. ثم تزوجت من نعمان السمان, ورزقا بابنهما قيس. أما أختي خلود فتدرس السنة الخامسة للصيدلة في جامعة دمشق. تعاونت شقيقتاي مع أمي وأبي في العناية بي، وبعد وفاة أمي وزواج ميسون تحمل أبي أساسا وشقيقتي خلود عبء العناية بي وفقهم الله جميعهم وأمدهم بالصحة والعافية, فقد كانوا خير عون لي في محنتي.
عودتي
عدت إلى المنزل بعد أكثر من سبعة أشهر من الحادث. وبعد سنة منه تقريبا أستأجر خالي حاسوبا لمدة شهر كانت كافية لإعادتي إلى عالم البرمجة. فبدأت بشراء بعض الكتب العربية عن البرمجة, وتعلمت لغة C. ثم بدأت بقراءة كتب إنغليزية عن لغة C++ والبرمجة الثلاثية الأبعاد, وترجمت كتابين منها. بقي كل ذلك نظريا حتى أحضر لي خالي حاسوبا دائما, فبدأت بتطبيق ما قد تعلمته. وكنت أتواصل مع الحاسوب عن طريق موظفة كانت تطبق ما ألقنها إياه. وكنت أرى النتائج على شاشة موضوعة إلى جانبي.
العالم الخارجي
اقتصرت علاقتي مع العالم الخارجي بداية على أصدقائي اللذين يزورونني باستمرار. وقد رزقني الله بكثير من الأصدقاء, من مختلف الأعمار والثقافات. وأغلبهم تعرفت عليهم بعد الحادث. وقد احاطوني بالمحبة والاهتمام, ولم يتأخروا عن مد يد العون إلي.
تطورت علاقتي مع العالم الخارجي بعد حصولي على اتصال بالانترنت, فأصبح لدي أصدقاء في شتى أصقاع المعمورة, والكثير منهم لم أرهم ولم يروني إلا بالصور, ومنهم من لم أرهم مطلقا. كما أن موقعي هذا غدا وسيلة فعالة للتواصل مع الآخرين.
عملي
زارني مرة صديقي الدكتور نسيم رتيب ومعه صديقه المهندس أسامة المصري وهو مدير قسم البرمجة في Young Future, والذي سمع من نسيم عن خبرتي في لغة C++ والبرمجة الثلاثية الأبعاد. فطلب مني أن أعلمه اللغة, فتعلمها مني ومعي. وبعد غياب 3 أشهر عاد ليطلب مني العمل مع الشركة, فأصبحت مبرمجا في Young Future في أيلول\سبتمبر 2000.
أسهمت في الشركة بعدة مشاريع, ولازلت. ولا يحق لي الإفصاح عن طبيعتها. وقد دفعتني تلك المشاريع إلى تعلم الكثير من التقنيات, وازدادت خبرتي كثيرا, وصقلت مهاراتي وتطورت خلال عملي في الشركة.
وقد حظيت بشرف زيارة مدراء Young Future الثلاثة, المدير التنفيذي السيد مناع حجازي, والمدير المالي السيد ماهر الحاج ويس, والمدير السيد فايز الصباغ. و Young Future شركة كبيرة تعمل في مجال الإعلام المرئي الموجه للأطفال, وهي الشركة الأم لشركات عديدة, منها شركة الزهرة للدبلجة Venus وشركة SpaceToon للبث الفضائي.
الفأرة ولوحة المفاتيح الفعلية
كانت علاقتي مع الحاسوب معتمدة على الوسيط البشري الغير متوفر دوما, فبعد انتهاء الدوام الصباحي للموظفة المسؤولة تنقطع علاقتي بالحاسوب تقريبا, وأضطر للانتظار حتى اليوم التالي. الأمر الذي دفعني للبحث عن حلول أخرى.
تطوع صديقي الدكتور نسيم رتيب للتصدي لهذه المشكلة. وبالفعل وفقه الله لابتكار فأرة ميكانيكة وتصنيعها بالكامل. فأضحى هذا الاختراع وسيلة مباشرة للتحكم بالحاسوب. وأصبحت قادرا للمرة الأولى على التواصل مع الحاسوب دون وسيط.
وباستخدام برنامج On-Screen Keyboard الملحق بـ Windows أصبحت قادرا على الكتابة دون استخدام لوحة المفاتيح المادية.
إلا أن البرنامج لم يكن مرنا كفاية, فوفقني الله إلى تطوير برنامج لوحة المفاتيح الفعلية, والذي استخدمته لتحرير هذا النص.
عانيت من مشكلة عجزي عن التصرف إذا تجمد الحاسوب بسبب خلل ما. فطورت برنامج يقوم بإعادة الإقلاع في حال تجمد مؤشر الفأرة لأكثر من 3 دقائق, إلا أن البرنامج كان يعجز عن العمل إذا طال التجمد البرنامج بحد ذاته. فقام الدكتور نسيم بتزويد الفأرة بزر لإعادة الإقلاع في حال الطوارئ. كما أن الفأرة كانت تربط على وجهي كاللجام مما تسبب بحساسية في وجهي.
فبدأت البحث عن حل جديد. وعثرت على سماعات رأسية متينة, وقام الدكتور نسيم بتثبيت الفأرة عليها. ولكن سرعان ما تحسس صيوانا أذني من السماعات.
ساعدني صهري نعمان السمان على ابتكار حل جديد وذلك بتثبيت الفأرة إلى السرير بوساطة حامل معدني. حل هذا الأسلوب مشاكل التحسس, إلا أنه لم يكن مرنا كفاية, بسبب عدم إمكانية تغيرر الطول الأفقي للحامل. إضافة للمشاكل الناتجة عن اتساخ الفأرة الميكانيكية وحاجتها المستمرة للفك من أجل التنظيف.
وكنت على الدوام أوصي أصدقائي بالبحث عن فأرة لمسية كنت قد شاهدتها في الحواسيب المنقولة وبعض لوحات المفاتيح. فوفق الله ابن خالتي وارف أبو قبع إلى العثور على إحدى لوحات المفاتيح تلك في أحد المعارض. فقام الدكتور نسيم بنزع الفأرة من لوحة المفاتيح وبقصها وبتعديل شكلها وبتثبيتها إلى الحامل المعدني وبإضافة زر إعادة الإقلاع إليها.
وبمساعدة صديقي فخر الدين طعمة تم تعديل الحامل ليصبح من الممكن تغيير الطول الأفقي للحامل. وهو الشكل النهائي الآن. وقد أصبحت الفأرة بفضل الله وجهود أصدقائي وبعد كل هذه التعديلات مرنة إلى درجة ممتازة.
الشاشة والنظارات
كنت أشاهد شاشة الحاسوب بداية وهي موضوعة إلى جانبي بشكل مائل مما أساء إلى عيني. وقد حاولت إيجاد طريقة لتثبيت الشاشة فوق رأسي, لكن الشاشات المهبطية كانت ثقيلة الوزن, فبدأت بالبحث عن شاشة كريستالية وهي معروفة بصغر حجمها وخفة وزنها. لكنها كانت باهظة الثمن في ذلك الوقت, فقامت شركة Young Future بشراء واحدة إلي, بعد تدخل مديري في الشركة وصديقي أسامة المصري.
بقيت مشكلة تثبيت الشاشة فوق رأسي. فقمت بتصميم نموذج عن الحامل, وبمساعدة صديقي بدر الدين طعمة طبق التصميم وأصبحت الشاشة موضوعة فوق رأسي, مما أراح عيني كثيرا. إضافة إلى أن الشاشات الكريستالية لا تصدر إشعاعات مؤذية كالشاشات المهبطية.
نظرا لحاجتي لنظارات حتى قبل الحادث, وتراجع قدراتي البصرية بعد الحادث, قام ابن عمي الدكتور مازن سنجاب بفحص عيني, دون الاضطرار للذهاب إلى عيادة طبيب العيون, وهو أمر بالغ الصعوبة نظرا لارتباطي بالمنفسة.
إلا أن نظاراتي القديمة الصلبة تسببت بجروح في وجهي نظرا لارتدائي الطويل لها. فعثر صديقي سامر سلمى على نظرات جديدة بالغة الخفة والمرونة حلت المشكلة.
شكر
الحمد لله أولا وآخرا ودائما وأبدا على كل شيء والأهم هو حياتي وعقلي وإسلامي. (ولو تعدوا نعمة الله لا تحصوها).
أشكر أمي رحمها الله، التي أنجبتني وأحسنت تربيتي وتعليمي ورعايتي قبل الحادث وبعده. غفر الله لها وأسكنها فسيح جنانه.
أشكر أبي أطال الله عمره، لما بذل ويبذل من مال وجهد عظيمين منذ ننشئتي حتى الآن، أعانه الله وأمده بالصحة والعافية.
أشكر شقيقتي ميسون وخلود اللتين حرصتا على العناية بي دوما. كما أشكر خالي سمير وخالتي هند. وأشكر جميع أصدقائي وكل من أحبوني ومدوا يد العون لي.
وأشكر الأستاذ عمرو خالد على لفتته الكريمة إضافة لجهوده المباركة في مجال الدعوة إلى الله, وأشكر كل العاملين معه وعلى رأسهم الأخ عامر عبدو وأنت أختي الفاضلة أمل حجازي, ولن أنسى بنت خالتي رنا أبو قبع التي دلتكم علي.
وأنا أطلب من كل أخواني المسلمين وعلى رأسهم الأستاذ عمرو خالد أن لا ينسوني من دعائهم, وأنا لن أنساهم أبدا.
خلاصة
وفي الختام أوجه تحية لكل مسلم يبتليه ربه, داعيا له بالفرج وحسن الختام, محرضا إياه على الاستمرار بالعمل الدؤوب, فالحياة لا تنتهي بالبلاء طالما أن هنالك عقلا سليما وقلبا مؤمنا ولسانا ذاكرا وأملا برحمة الله في الدنيا والآخرة, والحمد لله رب العالمين.
نقلا عن موقع الداعية .. عمرو خالد!!