أسلم الفتى عمير وهو صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره إلا قليلًا، فوجد الإيمان في قلبه الغض مكانًا خاليًا فتمكن منه، وألفى الإسلام في نفسه الصافية الشفافة تربة خصبة فتغلغل في ثناياها، فكان على حداثة سنه لا يتأخر عن صلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أمه تغمرها الفرحة كلما رأته ذاهبًا إلى المسجد أو آيبًا منه، تارة مع زوجها (الجلاس بن سويد) وتارة وحده.
وكفل الجلاس عميرًا فكان له نعم الوالد، وغمره بالحب والعطف والحنان وعوضه عن فقد أبيه، وأحب عمير كما يحب الوالد ولده، وبادله عمير نفس الحب لما رأى الأبوة والدفء والحنان.
وسارت حياة الغلام عمير بن سعد على هذا النحو؛ هانئة وادعة لا يعكر صفوها معكر، ولا يكدر هناءتها مكدر، حتى شاء الله تعالى أن يعرض الغلام اليافع لتجربة من أشد التجارب عنفًا وأقساها قسوة، وأن يمتحنه امتحانًا قلَّما مرَّ بمثله فتى في سنِّه.
ففي السنة التاسعة للهجرة أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عزمه على غزو الروم في تبوك، وأمر المسلمين بأن يستعدوا ويتجهزوا لذلك، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغزو غزوة لم يصرِّح بها، وأوهم أنه يريد جهة غير الجهة التي يقصد إليها، إلا في غزوة تبوك، فإنه بيَّنها للناس لبعد الشُقَّة وعظم المشقة، وقوة العدو؛ ليكون الناس على بينة من أمرهم، فيأخذوا للأمر أهبته ويعدوا له عدته.
وعلى الرغم من أن الصيف كان قد دخل، والحر قد اشتد، والثمار قد أينعت، والظلال قد طابت، والنفوس قد ركنت إلى التراخي والتكاسل، على الرغم من ذلك كله؛ فقد لبَّى المسلمون دعوة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأخذوا يستعدون ويتجهزون.
غير أن طائفة من المنافقين أخذوا يثبطون العزائم، ويهنون الهمم، ويثيرون الشكوك، ويغمزون الرسول صلى الله عليه وسلم، ويطلقون في مجالسهم الخاصة من الكلمات ما يدمغهم بالكفر دمغًا.
وفي يوم من هذه الأيام التي سبقت رحيل الجيش، عاد الغلام عمير بن سعد إلى بيته بعد أداء الصلاة في المسجد، وقد امتلأت نفسه بطائفة مشرقة من صور بذل المسلمين وتضحيتهم رآها بعينيه وسمعها بأذنيه.
فقد رأى نساء المهاجرين والأنصار يُقْبِلْن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينزعن حليهن ويلقينها بين يديه؛ ليجهز بثمنه الجيش الغازي في سبيل الله، وأبصر بعيني رأسه عثمان بن عفان رضي الله عنه يأتي بجراب فيه ألف دينار ذهبًا، ويقدِّمه للنبي صلى الله عليه وسلم، وشهد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يحمل على عاتقه مائتي أوقية من الذهب، ويلقيها بين يدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، بل إنه رأى رجلًا يعرض فراشه للبيع ليشتري بثمنه سيفًا يقاتل به في سبيل الله.
فأخذ عمير يستعيد هذه الصور الفذة الرائعة، ويعجب من تباطؤ الجلاّس عن الاستعداد للرحيل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتأخر عن البذل على الرغم من قدرته ويساره.
وكأنما أراد عمير أن يستثير همة الجلَّاس ويبعث الحمية في نفسه؛ فأخذ يقص عليه أخبار ما سمع ورأى، وخاصة من خبر أولئك النفر من المؤمنين الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوه في لوعة أن يضمهم إلى الجيش الغازي في سبيل الله، فردَّهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يجد عنده من الركائب ما يحملهم عليه، فتوَلَّوا وأعينهم تفيض بالدمع حزنًا ألَّا يجدوا ما يبلِّغهم أمنيتهم في الجهاد، ويحقق لهم أشواقهم في الاستشهاد.
لكن الجلاس ما كاد يسمع من عمير ما سمع؛ حتى انطلقت من فمه كلمة أطارت صواب الفتى المؤمن؛ إذ سمعه يقول: (إن كان محمد صادقًا فيما يدَّعيه من النبوة؛ فنحن شر من الحمير)!!
لقد شُدِه عمير مما سمع، فما كان يظن أن رجلًا له عقل الجلَّاس وسنُّه تنذُّ من فمه مثل هذه الكلمة، التي تُخرج صاحبها من الإيمان دفعة واحدة وتدخله في الكفر من أوسع أبوابه.
وكما تنطلق الآلات الحاسبة الدقيقة في حساب ما يُلقى إليها من المسائل؛ انطلق عقل الفتى عمير بن سعد يفكِّر فيما يجب أن يصنعه؛ لقد رأى أن في السكوت عن الجلَّاس والتستر عليه خيانة لله ورسوله، وإضرارًا بالإسلام الذي يكيد له المنافقون ويأتمرون به، وأن في إذاعة ما سمعه عقوقًا بالرجل، الذي ينزل من نفسه منزلة الوالد، ومجازاة لإحسانه بالإساءة، فهو الذي آواه من يُتْم، وأغناه من فقر، وعوضه عن فقد أبيه.
وكان على الفتى أن يختار بين أمرين أحلاهما مر؛ وسرعان ما اختار.
فالتفت إلى الجلاس وقال: والله يا جلَّاس، ما كان على ظهر الأرض أحد بعد محمد بن عبد الله أحبَّ إليَّ منك؛ فأنت آثرُ الناس عندي، وأجلُّهم يدًا عليَّ، ولقد قلت مقالة إن ذكرتُها فضحتك، وإن أخفيتُها خنت أمانتي وأهلكت نفسي وديني، وقد عزمت أن أمضي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قلت، فكن على بينة من أمرك.
مضى الفتى عمير على المسجد، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما سمع من الجلَّاس بن سويد، فاستبقاه الرسول صلى الله عليه وسلم عنده، وأرسل أحد الصحابة ليدعو الجلَّاس.
وما هو إلا قليل حتى جاء الجلاس فحيا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وجلس بين يديه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما مقالة سمعها منك عمير بن سعد؟!)، فقال: كذَبَ عليَّ يا رسول الله وافترى، فما تفوَّهت بشيء من ذلك!!
وأخذ الصحابة ينقلون أبصارهم بين الجلاس وفتاه عمير بن سعد كأنهم يريدون أن يقرءوا على صفحتي وجهيهما ما يكنُّه صدراهما، وجعلوا يتهامسون، فقال واحد من الذين في قلوبهم مرض: فتى عاق، أبى إلا أن يسيئ لمن أحسن إليه، وقال آخرون: بل إنه غلام نشأ في طاعة الله، وإن قسمات وجهه لتنطق بصدقه.
والتفت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عمير فرأى وجهه قد احتقن بالدم، والدموع تتحدر مدرارًا من عينيه، فتتساقط على خديه وصدره، وهو يقول:
اللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمتُ به...
اللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمت به...
فانبرى الجلَّاس وقال: إن ما ذكرته لك يا رسول الله هو الحق، وإن شئت تحالفنا ـ أي حلفنا ـ بين يديك، وإني أحلف بالله أني ما قلت شيئًا مما نقله لك عمير.
فما إن انتهى من حلْفِه وأخذت عيون الناس تنتقل عنه إلى عمير بن سعد، حتى غشيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم السكينة، فعرَف الصحابة أنه الوحي، فلزموا أماكنهم وسكنت جوارحهم ولاذوا بالصمت وتعلقت أبصارهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا ظهر الخوف والوجل على الجلَّاس، وبدا التلهف والتشوف على عمير، وظل الجميع كذلك حتى سُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتلا قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ.....} [التوبة: 74].
فارتعد الجلَّاس من هول ما سمع، وكاد ينعقد لسانه من الجزع، ثم التفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بل أتوب يا رسول الله، بل أتوب، صدق عمير يا رسول الله وكنتُ من الكاذبين، اسأل الله تعالى أن يقبل توبتي، جُعِلتُ فداك يا رسول الله.
وهنا توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الفتى عمير بن سعد، فإذا دموع الفرح تبلل وجهه المشرق بنور الإيمان؛ فمدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة إلى أذنه وأمسكها برفق، وقال: (وفَّت أذنك ـشش يا غلام ـ ما سمِعَت، وصدَّقك ربُّك).
عاد الجلاس إلى حظيرة الإسلام وحسُن إسلامه، وقد عرف الصحابةُ صلاحَ حاله مما كان يغدقه على عمير من بر، وقد كان يقول كلما ذُكر عمير: جزاه الله عني خيرًا؛ فقد أنقذني من الكفر وأعتق رقبتي من النار. [مستفاد من صور من حياة الصحابة، عبد الرحمن رأفت الباشا].
عمير ورقة بيضاء رسمها الحبيب المصطفى:
بعد أن عشت مع هذا الطفل القيمي صاحب المبادئ، والذي لم يتنازل أبدًا عن مبدئه رغم صغر سنه وصعوبة المواجهة؛ فهو طفل يتيم، وفي نفس الوقت يحب الجلاس لفضله عليه، وفي نفس الوقت يحب النبي صلى الله عليه وسلم ويغير على الإسلام، ويعتبر الصدع بالحقيقة ورد غيبة النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ لا يمكن أن يتنازل عنه، وقيمة عليا لا يمكن التهاون بها، ولو أردنا أن نحلل العوامل المحيطة بعمير والقوى المؤثرة التي كانت من الممكن أن تؤثر في أخلاقه، لوجدنا ما يلي:
1. الأسرة: متملثة في الجلَّاس، الذي لم يقدِّم له القدوة الصالحة، والذي كان يعد ورقة ضغط كبيرة على الجانب العاطفي والانفعالي بالنسبة لعمير، حيث أنه كان يعيش معركة بداخله بين مشاعر الحب والوفاء لكلٍّ من الجلَّاس والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
2. الثقافة المجتمعية: لم تكن كل النماذج الموجودة في تعاملها مع غزوة تبوك كتلك القدوات التي رآها عمير في السوق، بل كانت هناك نماذج أخرى سلبية مؤثرة بالتأكيد على ثقافة المجتمع، ولقد فضح القرآن الكريم في سورة التوبة هذه النماذج؛ مثل: المعذرين من الأعراب، والذين قالوا لا تنفروا في الحر.
3. المنهج الخفي: هذه السلوكيات التي سلكها المعذرون من الأعراب والذين كرهوا أن ينفروا في الحر كانت وحدها منهجًا خفيًّا، يمثِّل توجيهًا غير مباشر للصغار أمثال عمير رضي الله عنه أن أمر القعود عن الجهاد أمر ممكن ومحتمل؛ وبالتالي فيمكن أن يحدث من الجلَّاس.
4. الإعلام اليهودي: إن المجتمع المدني أيضًا لا يخلو من تأثير فئة المنافقين وفئة اليهود على الرأي العام، ومحاولتهم دائمًا التأثير السلبي على المجتمع المسلم.
وبغير شك كان لهذا الدور الإعلامي من فئة المنافقين أو اليهود تأثير شعر به عمير، ولكن عمير رضي الله عنه الطفل الصغير كان الذي صاغ شخصيته النبي صلى الله عليه وسلم، ورسم ورقته البيضاء من يتلقى الوحي من أعلى سماء، فكيف لم يتأثر عمير صاحب هذه المبادئ بالمجتمع المحيط به؟! كيف لم يتأثر بدور الإعلام اليهودي؟! كيف لم يتأثر بالمنهج الخفي برفقاء السوء؟! كيف رُسمت هذه الشخصية القوية؟!
إذًا يستطيع المربي أن يمسك الزمام، يستطيع في وجود الإعلام، وفي ظل ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه، وتحت تأثير جماعة الرفاق والأسرة، وغير ذلك من وسائل التأثير.
يستطيع المربي فعل ذلك عندما يجيد الرسم ويحسن فن استخدام الألوان، يستطيع ذلك إن كان معه خطة واضحة في التربية، ونموذج يصيغ عليه شخصية طفله وفق المبادئ العليا التي يؤمن بها.
إذا وُجد هذا النوع من المربين في المجتمع وتكرر وأصبح هو النموذج الغالب؛ لكان لهذه الطريقة في التربية أكبر أثر على الأفراد والمجتمعات، ولغاب هذا النوع السائد في المجتمع المعتمد على التربية العفوية، ولتكرر نموذج عمير، ولأصبح واقعًا يمكن مشاهدته في أبنائنا وبناتنا.
على درب عمير ومعلمه:
ـ تستطيع التأثير في طفلك أيها الوالد، بالرغم من وجود العوامل الخارجية المحيطة بطفلك كالإعلام والبيئة، فاختار كلماتك التي تستطيع من خلالها التأثير على طفلك، ولا يبقى تأثير للقوى الأخرى كأن تقول لطفلك (تعجبني الطريقة التي اتخذتها في تعاملك مع هذا الأمر _ لأنني أعرفك جيدًا، فأنا على يقين بأنك ستتصرف على نحو طيب ـ أعتقد أن باستطاعتك القيام به) [كيف تكون قدوة حسنة لأبنائك، سال سيفير، ص(47)].
ـ ربِّ ولدك على حرية الرأي، والعزة، فالطفل الذي يتربى من صغره على هذه القيم عندما يخطئ، يقوم بالاعتراف بخطئه دون أي خوف (فالاستماع إلى الابن نقوي شعوره نحو الانتماء لأسرته، لذا يجب أن نسمع إلى ما يقول الابن أولًا قبل أن نخبره بما يجب عليه أن يفعل، كما يجب أن نشجعه على الحديث معنا بحرية وبدون مقاطعة) [سياسات تربوية خاطئة، محمد ديماس، ص(73-74)].
م.ن