غالبا ما يجد الأطباء مستويات غير طبيعية من هرمون الغدة الدرقية في دم المرضى المصابين بالاكتئاب والقلق وغيرها من المشكلات النفسية الأخرى، كما وجدوا أن علاج تلك المشكلة يؤدي إلى اعتدال المزاج وتحسن الذاكرة والوظائف الإدراكية.
قصور الغدة الدرقية
يقوم الباحثون في الوقت الراهن بفحص ارتباط مثير للجدل نوعا ما بين المشكلات الصغيرة في الغدة الدرقية، أو المشكلات «دون السريرية»، والمشكلات النفسية التي يعاني منها بعض المرضى.
وبعد استعراض الأبحاث التي تتحدث عن قصور الغدة الدرقية دون السريرية (subclinical hypothyroidism) والمزاج، خلص الدكتور روسيل جوف، اختصاصي نفسي في مستشفى «نورث شور لونغ آيلاند جويش هيلس سيستم»، وزملاؤه إلى أن علاج تلك الحالة، التي تصيب نحو 2% من الأميركيين، قد يخفف الأعراض النفسية لبعض المرضى وقد يمنع أيضا الانخفاض الإدراكي في المستقبل.
وقال الدكتور جوف: «لقد أخبرنا المرضى، الذين يعانون من أعراض نفسية، أنهم يشعرون بتحسن عندما يتناولون هرمونات الغدة الدرقية».
وتقوم الغدة الدرقية، وهي غدة على شكل ربطة العنق المقوسة (البيبيونة) تلتف حول القصبة الهوائية، بإفراز نوعين من الهرمونات، الثيروكسين (thyroxine)، أو «تي فور» (T4)، وثلاثي يودوثيرونين (triiodothyronine)، أو «تي ثري» (T3). ويلعب هذان الهرمونان دورا في نطاق مدهش من العمليات الجسدية، بدءا من تنظيم حرارة الجسم وضربات القلب وحتى الوظائف الإدراكية.
ويمكن لأي مجموعة من الأشياء مثل التعرض للإشعاع ووجود كمية كثيرة جدا أو قليلة جدا من اليود في النظام الغذائي وتناول أدوية مثل الليثيوم، ومرض المناعة الذاتية، أن تتسبب في حدوث قصور في نشاط الغدة الدرقية. ويرتفع احتمال الإصابة بمرض الغدة الدرقية مع تقدم السن.
ويتسبب نشاط الغدة الدرقية في سرعة عملية الأيض (التمثيل الغذائي)، ويسبب أعراضا مثل التعرق وسرعة ضربات القلب وفقدان الوزن والقلق. أما قصور الغدة الدرقية فيسبب الشعور بالإرهاق وزيادة الوزن والخمول والاكتئاب وعدم القدرة على التركيز ومشكلات الذاكرة.
الدرقية والاكتئاب
وقال دكتور جوف: «في أوائل القرن العشرين كان أفضل وصف للاكتئاب السريري موجودا بالفعل في الكتب المقررة الخاصة بمرض الغدة الدرقية، وغير موجود في الكتب المقررة للطب النفسي». غير أن الأطباء اعترضوا طويلا على طبيعة الروابط بين الأعراض النفسية ومشكلات الغدة الدرقية.
وقالت جينفر دافيس، أستاذة مساعدة في الطب النفسي والسلوك البشري بجامعة براون: «من الصعب تحديد أيهما تتسبب في حدوث الآخر، هل هناك مشكلة ما متعلقة بالغدة الدرقية تسبب ظهور الأعراض النفسية، أم أن الأعراض النفسية هي التي تسبب مشكلات في الغدة الدرقية؟».
وذكرت دافيس أن من الشائع أن يحدث تشخيص خاطئ للمرض النفسي بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من مشكلات في الغدة الدرقية.
وكانت لياه كريستيان، 29 عاما، العاملة في إحدى دور رعاية الأطفال بسان فرانسيسكو، قد تناولت مضادات الاكتئاب منذ عشر سنوات لعلاج الاكتئاب والقلق. غير أنها ذكرت أن تلك الأدوية لم تساعدها، بل على العكس «تسببت في تدهور حالتها».
وقبل بضع سنوات، عندما كانت لا تزال تعاني من تلك الأعراض، طلبت كريستيان من طبيبها أن يقوم بتحويلها إلى طبيب استشاري. وقد قام الطبيب في البداية بعمل فحص الغدة الدرقية ووجد أنها مصابة بمرض ذاتي المناعة يدعى مرض الالتهاب الدرقي لهاشيموتو، نتيجة شائعة لمرض الغدة الدرقية.
ووصف لها عقار يفوثيروكسين، وهو بديل صناعي لهرمون الغدة الدرقية، حيث اختفت أعراض الاكتئاب والقلق تماما. وقالت كريستيان: «لقد تبين أن السبب وراء كل تلك الأعراض متصل بالغدة الدرقية».
وكانت كريستيان محظوظة، من ناحية، حيث كان مستوى الهرمونات لديها طبيعيا للغاية. وتتراوح المستويات «الطبيعية» للهرمون المحفز للدرقية ما بين 0.4 إلى 5 (كلما كان الهرمون المحفز للدرقية أعلى، قل نشاط الغدة الدرقية).
وقد اتفق معظم اختصاصيي الغدد الصماء أنه إذا كان معدل هذا الهرمون 10 أو أكثر، فيجب العلاج من قصور الدرقية. إلا أنه بالنسبة للأشخاص الذين تتراوح معدلات الهرمون لديهم بين 4 و10، على سبيل المثال، يكون الأمر أكثر ضبابية، ولا سيما بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من أعراض نفسية غير واضحة مثل التعب أو الاكتئاب الخفيف أو الذين يشعرون أنهم ليسوا على ما يرام وحسب.
العلاج بهرمونات الدرقية
يعتقد بعض الأطباء أنه يجب علاج هؤلاء المرضى. وقال الدكتور توماس غيراسيوتي، أستاذ الطب النفسي بكلية الطب جامعة سينسيناتي: «إذا كان شخص ما لديه اعتلال مزاجي وقصور الغدة الدرقية دون السريري، فقد يكون الأمر هاما».
وقد استخدم غيراسيوتي هرمونات الغدة الدرقية لعلاج الممثلين الذين يشعرون برهبة المسرح الموهنة للعزيمة، وذكر أن موسيقيا بارزا قد تعافى بصورة تامة.
وتعد فكرة علاج قصور الغدة الدرقية دون السريري محط خلاف، ولا سيما بين اختصاصيي الغدد الصماء، فيرى الدكتور جوف أن علاج هرمون الغدة الدرقية قد يتسبب في إجهاد القلب كما قد يؤدي إلى تفاقم هشاشة العظام لدى النساء.
من ناحية أخرى فإن الفشل في علاج تلك الحالة قد يؤدي أيضا إلى إجهاد القلب، وأشارت بعض الدراسات إلى أنه قد يؤدي إلى زيادة احتمال الإصابة بمرض ألزهايمر وغيره من أنواع الخرف. ثم تحدث حالة من البؤس، يصعب تحديدها بعد ذلك. وقال جوف: «يميل الناس إلى تجاهل قضايا جودة الحياة المتعلقة بالاكتئاب المتبقي والقلق».
ويرتفع احتمال تفاقم مشكلات الغدة الدرقية لدى النساء أكثر منه لدى الرجال، ولا سيما النساء اللاتي يتجاوزن الخمسين من العمر، ويعتقد بعض الخبراء أن النوع الجنسي يفسر بعض التردد في علاج المرض دون السريري.
وقالت دافيس: «هناك تحيز هائل ضد النساء اللاتي تظهر لديهن شكاوى عاطفية دقيقة، واللاتي يملن إلى تنحية تلك الشكاوى جانبا أو المشاركة في الشعور بالضغط والقلق».
وقال الدكتور جيمس هينيسي، مدير قسم الغدد الصماء السريرية بمركز بيث إسرائيل ديكونيل الطبي ببوسطن: «قد تكون الأعراض النفسية مبهمة ودقيقة وشخصية للغاية».
هناك أيضا عائق آخر، فالكثير من الخبراء لا يعلمون بوضوح ما هي المعدلات الطبيعية لهرمون الغدة الدرقية. وقال الدكتور هينيسي: «قد يكون معدل الهرمون المحفز للدرقية لدى مريض ما 5، وقد يذكر الكثير من الإخصائيين أنه ليس معدلا مرتفعا بدرجة كافية حتى يكون مصاحبا بأعراض.
لكن إذا ما كان المعدل الذي ينبغي أن يصل إليه هذا المريض هو 0.5 فإن 5 سوف تعد زيادة أكبر بعشرة أضعاف في معدل الهرمون المحفز للدرقية، مما قد يشير بالفعل إلى مرض هذا الشخص».
وفي دراسة نشرت عام 2006، استخدم باحثون من مقاطعة أنهوي بالصين مسح المخ لتقييم المرضى الذين يعانون من قصور الغدة الدرقية دون السريري قبل وبعد العلاج. ووجدوا تحسينات ملموسة في كل من الذاكرة والوظائف التنفيذية بعد ستة أشهر من العلاج باستخدام يفوثيروكسين.
وقد قام الدكتور جوف وباحثون بجامعة بوسطن مؤخرا، مع تمويل من معاهد الصحة الوطنية، بالبدء في تجربة لتوضيح العلاقة بين قصور الغدة الدرقية دون السريري ومزاج معين وأعراض إدراكية في أشخاص يتزايد أعمارهم عن 60 عاما. ولن تتبين النتائج قبل بضع سنوات على الأقل.